الثلاثاء، 24 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/26م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

النظام التركي وغزة

انسحابٌ أمام الحرب واستنفارٌ لما بعد الحرب!

 

معزوفة إدانة الصمت

 

لأردوغان قصة طويلة وعجيبة مع الصمت، ولن نبالغ إن قلنا إنه من أكثر الزعماء إدانة للصمت العربي والغربي تجاه الجرائم المروعة التي ارتكبها كيان يهود الغاصب في فلسطين طوال سنوات، حيث تزداد حدة الخطاب كلما ازدادت شدة النقد...

 

ولم يقف الأمر عند انتقاده الصمت العالمي عن عملية "الجرف الصامد" في 2014 أو عملية "السيوف الحديدية" في 2023، بل كانت له صولات وجولات وإطلالات بين الحربين، لطالما أدان خلالها الصمت حيال الجرائم المتزايدة في غزة والضفة والاستفزازات في الأقصى، فكان كيان يهود المحتل يباشر جرائمه في حق أهل فلسطين من جهة، وكان "الزعيم أردوغان" في الموعد من جهة أخرى مع كل جريمة جديدة، فيتكلم لإدانة الصمت، ويتسلح بسلاح الخطابات الناريّة ليكسب ود أنصار القضيّة، وكفى الله المؤمنين "شر" القتال!

 

ومع أنه كان منشغلا أياما قليلة قبيل انطلاق طوفان الأقصى باستعادة دفء العلاقات مع كيان يهود وترويض نتنياهو لمسار السلام المزعوم، حيث لم يقف الأمر عند مجرد استقباله يوم 20/09/2023 لرئيس وزراء كيان يهود في "البيت التركي" بمدينة نيويورك الأمريكية على هامش المشاركة في جلسات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة، وإنما أفادت الرئاسة التركية - في بيان بهذا الشأن - أن أردوغان بحث مع نتنياهو قضايا دولية وإقليمية، إضافة للعلاقات السياسية والاقتصادية بين الطرفين، وآخر التطورات المتعلقة بالصراع الفلسطيني (الإسرائيلي)، حيث أكّد الرئيس التركي ضرورة العمل معا من أجل عالم يسوده السلام، مشيرا إلى أن مساحة العمل المشترك بين بلاده و(إسرائيل) تشمل مجالات الطاقة والتقنية والاختراع والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. هذا فضلا عما قاله وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار الذي شارك بالاجتماع؛ حيث أكد أن الرئيس ونتنياهو ناقشا فرص التعاون في مجال الطاقة بشكل أساسي في مجالات مثل: استكشاف الغاز الطبيعي وإنتاجه والتجارة فيه. (الجزيرة، 20/09/2023). لا بل أضاف أنه يعتزم زيارة (إسرائيل) في تشرين الثاني/نوفمبر لمناقشة شحن الغاز الطبيعي (الإسرائيلي) إلى أوروبا عبر تركيا وللاستهلاك المحلي أيضا، وذلك يومين فقط قبل عملية طوفان الأقصى. (العربي الجديد، 05/10/2023).

 

ومع ذلك كله، لم يتخلف النظام التركي عن القيام بواجبه المعتاد في إدانة الصمت الغربي تجاه ما يحصل في غزة، ولكنه هذه المرّة، راح يشتكي هذا الصمت لنظيره الروسي الذي ولغ في دماء المسلمين الأبرياء في سوريا، حيث ذكرت الرئاسة التركية أن الرئيس رجب طيب أردوغان قال لنظيره الروسي فلاديمير بوتين في اتصال هاتفي إن صمت الدول الغربية يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة. (رويترز، 24/10/2023). ولكن السؤال المطروح، ماذا فعل النظام التركي أمام تزايد القصف والتدمير والتهجير؟ هل من إنجاز عملي يذكر أم أن الأمر وقف عند إدانة الصمت؟!

 

تخاذل أمام القصف والدمار

 

إن كل أوراق الضغط التركي على كيان يهود، تم الاحتفاظ بها في الدرج، وفيما تعالت الأصوات في الداخل التركي إلى حد الصراخ والقهر الذي راح ضحيته النائب التركي عن حزب السعادة، حسن بيتماز، وسمع به العالم أجمع، من أجل استعمال هذه الأوراق وفي مقدمتها ورقة النفط الذي تزايدت الحاجة إليه خلال فترة الحرب، فإن تركيا تجاهلت كل هذه الدعوات وتكفلت بتأمين حاجيات الكيان الصهيوني وضمان استمرار تدفق النفط الأذربيجاني ونقله من ميناء جيهان إلى ميناء إيلات بعد تضرر استهداف ميناء عسقلان من قبل الكتائب الفلسطينية، وهو ما أكده تقرير لوكالة بلومبيرغ وتحدثت عنه جريدة زمان التركية في 30/10/2023.

 

أما مباحثات الطاقة مع (إسرائيل) فهي مرهونة بوقف إطلاق النار في غزة، بحسب وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار (الأناضول، 08/11/2023).

 

أي أن طوفان الأقصى قد عطّل مشروع شحن "الغاز (الإسرائيلي)" (على أساس أن لكيان يهود حقاً في ذلك الغاز) إلى أوروبا عبر تركيا وفق رؤية وزير الطاقة التركي!

 

ولنحاول أن ننسى من أذهاننا ورقة الطاقة وتصدير تركيا للوقود JET A-1 الخاص بطائرات إف 35 التي تقصف مدن غزة وقراها (رغم عظم هذا الجرم)، ونأتي إلى ما نشره الإعلام العبري من توريده للخضروات من تركيا...

 

فإنه ورغم نفي الإعلام التركي في البداية، فقد أكد وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو خلال حوار له مع شبكة الجزيرة القطرية (نشرته ترك برس بتاريخ 11/01/2024)، أن تصدير البضائع من تركيا إلى كيان يهود لم يتوقف طوال فترة الحرب، حيث حاول تخفيف الصدمة للمتابع العربي قائلا: "إنه بين 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي وحتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، أبحرت 701 سفينة من موانئ تركيا إلى (إسرائيل)، وهذا يعادل متوسط ​​8 سفن يوميا، بكمية لم تتجاوز 1.9 مليون طن خلال هذه الفترة".

 

في المقابل، لم نر أي جهود عمليّة تذكر في سبيل نصرة أهل غزة، غير الشعارات والهتافات والدعاية الإعلامية التي لا تغيث ملهوفا ولا تنصر مستضعفا ولا توقف حربا، أما على أرض الواقع، فقد واصل النظام التركي توجيه جيشه للقيام بعمليات عسكرية في سوريا والعراق، برا وجوا، معززا قواعده العسكرية في كلا البلدين، غير عابئ بما يحصل لغزة وأهلها، وهكذا تسقط سردية الدفاع عن المظلومين التي طالما رددها أردوغان على مسامعنا! فالشركة الأمنية التركية "سادات" التي وصلت في السابق إلى ليبيا، لا يبدو أن فلسطين تعنيها، فهي ليست جارتها ما دامت لم ترسم حدودها البحرية، وطائرات بيرقدار التي أرسلها أردوغان إلى الساحل الأفريقي مطلع هذا العام لا يبدو هي الأخرى أن الدفاع عن المظلومين في فلسطين من مشمولاتها.

 

أما عن العلاقات الدبلوماسية وورقة سحب السفراء التي تعتمدها بعض الدول لحفظ ماء الوجه، فقد أعلنت تركيا، في 04/11/2023 استدعاء سفيرها في (إسرائيل) للتشاور على خلفية رفض (إسرائيل) الموافقة على وقف لإطلاق النار في غزة، لكنها لن تقطع العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل. حيث أكّد أردوغان يومها أن تركيا لن تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع (إسرائيل)، موضحا: "قطع العلاقات بشكل تامّ غير ممكن، خصوصا في الدبلوماسية الدولية". (الحرة، 04/11/2023).

 

وهكذا، يتأكد لكل متابع في أي صف يقف نظام أردوغان، بعيدا عن بروباغندا الإعلام التركي المطبّل لإنجازاته الوهمية ولمئوية الجمهورية العلمانية، وهو تخاذل يتغذى من إدانة الصمت العربي والدولي، ليمثل هو الآخر طعنة في ظهر أهل فلسطين، تضاف إلى بقية الطعنات والخيانات التي تعودوا عليها في ظل غياب خليفة وإمام يتقى به ويُقاتل من ورائه.

 

هرولة لإعادة الإعمار

 

بعد استحالة قطع العلاقات الدبلوماسية مع الصهاينة، وبعد استمرار تأمين كل حاجيات الكيان في هذه الفترة الحرجة، كما لو أنه لم يشاهد تلك الدماء والأشلاء التي يتظاهر أحيانا بالبكاء عليها دون دموع، لم يستطع أردوغان أن يتمالك نفسه أكثر من شهر حيث طال أمد الحرب ونفد صبره، ليمر مباشرة إلى الحديث عن متطلبات مرحلة ما بعد الحرب، مستبقا في ذلك الكيان الصهيوني نفسه!

 

  • حيث قال أردوغان خلال أول قمة عربية إسلامية طارئة في الرياض، وهي القمة المشتركة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية: "نعتقد أنه ينبغي إنشاء صندوق ضمن منظمة التعاون الإسلامي لإعادة إعمار غزة". (تي آر تي عربي، 11/11/2023).
  • بعدها بأسبوع، أعلن أردوغان خلال تصريحات له للصحافيين على متن طائرته عائدا من زيارة إلى ألمانيا، أن بلاده ستبذل جهوداً لإعادة بناء المستشفيات والمدارس والبنية التحتية المدمرة في غزة حال التوصل لوقف إطلاق نار هناك، حسبما ذكرت وسائل إعلام تركية. وقال أردوغان للصحافيين: "في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار فسنفعل كل ما يلزم للتعويض عن الدمار الذي سببته (إسرائيل)". (العربي، 18/11/2023).
  • ثم بعد أربعة أيام، قال الرئيس التركي مجددا إنه يجب إعادة إعمار قطاع غزة، داعيا لتوحيد الجهود العربية والإسلامية لكسر الحصار عن غزة. (الجزيرة، 22/11/2023).
  • كما لم تفته الدعوة إلى البدء في الاستعدادات لإعادة إعمار قطاع غزة الفلسطيني، عند مشاركته في الجلسة الافتتاحية لدورة كومسيك (اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري لمنظمة التعاون الإسلامي) التاسعة والثلاثين على مستوى الوزراء، حيث ألقى كلمة بهذه المناسبة. (ترك برس، 04/12/2023).

وهكذا، يتبين بشكل واضح وجلي، أن شهية أردوغان مفتوحة لإعادة إعمار غزة، أكثر من أي جهة أخرى، وأنه ينظر لهذا القطاع المدمر بالكامل على أنه صفقة تستوجب دعم من يقبل بدولة فلسطينية هزيلة على حدود عام 67، ولذلك طالما ظل يردد هذا الحل الأمريكي على أنه المخرج الوحيد لأهل غزة، بكل ما يعنيه ذلك من مساومة لغزة شعبا ومقاومة، على حياتهم وأرواحهم.

 

وفي الوقت الذي أحجمت فيه دول عربية (رغم تواطؤها وخذلانها) عن الخوض في سيناريوهات ما بعد الحرب، فقد فاجأ أردوغان جميع المتابعين حين قال ضمن كلمته في قمَّة العشرين التي شاركَ بها عن بُعد: إنَّ بلاده "مستعدة للاضطلاع بالمسؤولية مع دول أخرى في المنظومة الأمنية التي ستؤسَّس في غزة، بما في ذلك أن تكون دولة ضامنة". (الجزيرة، 29/11/2023).

 

ويرى مراقبون تحدثوا لموقع قناة الحرة أن ما طرحه أردوغان، خلال مشاركته في هذه القمة "ينسجم مع نظرة أنقرة إلى دورها الجديد في الشرق الأوسط كوسيط للسلام والقوة". (الحرة، 23/11/2023).

 

وهكذا، ظل أردوغان ينضج رؤيته للحل وتصوره لما مرحلة ما بعد الحرب على نار القصف (الإسرائيلي) المتواصل، وقد روت دماء الأبرياء أرض غزة الطاهرة، ليغمض الرئيس التركي أردوغان عينيه عن كل ذلك ويستقبل يوم 06/01/2024 وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ضمن جولته الرابعة في المنطقة منذ معركة طوفان الأقصى، ويعلن هذا الأخير أنه جاء مع وفد رفيع المستوى ليناقش مع القادة الأتراك اليوم الموالي للحرب في غزة، بينما نقل موقع بلومبيرغ عن مسؤول أمريكي أن واشنطن تسعى لحشد دعم أنقرة لخطط حكم قطاع غزة ما بعد الحرب، في ظل انشغال العالم أجمع عن محاور الاهتمام التركي.

 

وفيما تتهيأ تركيا للمرور إلى الخطوة الموالية في استدراج قادة حماس إلى الفخ الأمريكي، يفجر الإعلام التركي بالونة تفكيك "شبكة للموساد" ضمَّت أتراكاً ومصريين وفلسطينيين وتونسيين وسوريين، فضلا عن ترويجه لقصة البطولة التي سطرها جهاز الاستخبارات التركية "MİT" ودوره في إحباط محاولة الموساد (الإسرائيلي) اختطاف مهندس البرمجيات الفلسطيني عمر البلبيسي، المسؤول عن اختراق القبة الحديدية وتعطيلها، من العاصمة الماليزية كوالالمبور خلال العام الماضي 2022، لينخدع الغافلون فينشغلوا بدفء الملجأ السياسي التركي عن حجم المؤامرة التي تحاك ضدهم.

 

هل من مزيد؟

 

طبعا سيتمنى البعض للحظة، أن يقف تآمر النظام التركي بوجهه العلماني المتأسلم على منطقة الشرق الأوسط عند هذا الحد، متناسين أن تركيا فضلا عن دورها في تركيع العراق وإخماد جذوة الثورة في سوريا، فإنها تبقى حجر الزاوية في مشروع الشرق الأوسط الكبير منذ أعلن عنه في 2003، حيث أراد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن لأردوغان رئاسة مشروع الشرق الأوسط الكبير بعد حصوله على ميدالية الشجاعة اليهودية من اللوبي اليهودي في أمريكا، وذلك بحسب اعترافات الراحل نجم الدين أربكان، أستاذ أردوغان - قبل انفصاله عنه - في مؤتمر خاص عقد في 2007 بمركز أبحاث الاقتصاد والاجتماع في تركيا.

 

ولذلك، لا يبدو أن أمريكا قد تخلت عن هذا المشروع ولا عن دور تركيا في محاولة إدماج كيان يهود في المنطقة (بعد إزاحة اليمين المتطرف المنبوذ في الداخل والخارج)، لتصبح تركيا الوسيط الأول بين الأنظمة المنجرّة إلى التطبيع وهذا الكيان المسخ، ولا يبقى بعدها إلا إخضاع قيادات حماس...

 

ورغم أن طوفان الأقصى قد أربك العديد من الحسابات، إلا أن أمريكا لا تزال مصرة على استغلال المستجدات لصالحها، بإسناد هذا الدور إلى تركيا دون غيرها، رغم استعداد بقية الأطراف الإقليمية العميلة على لعب أدوار إضافية لصالح الأجندة الأمريكية وحلولها الخطيرة على مستقبل الأمة، بل رغم انخراطها العملي في ذلك وفي مقدمتها إيران وحزبها. والسؤال هنا، ما هي الطبخة السياسية التي ستفرض تركيا قبولها من قبل حكام غزة القادمين؟

 

أولا: ترسيم الحدود البحرية مع غزة

 

هذه الفكرة، جادت بها قريحة الأميرال جهاد يايجي منذ سنة 2021، وهو ضابط عسكري شغل مناصب مهمة في القوات البحرية التركية ومنها رئيس أركان القوات البحرية السابق، وقد كان لأفكاره وأطروحاته تأثير في القانون البحري والدبلوماسية في تركيا، وأدت إلى تغييرات مهمة للغاية.

 

وبعدما ترك صفوف الجيش، أسس الأميرال مركزا فكريا اسمه "مركز الاستراتيجيات البحرية والعالمية التركي"، ومن ناحية أخرى، بدأ العمل محاضرا في جامعة توبكابي في مدينة إسطنبول، وهو يحمل درجة أستاذ.

 

ومن الأطروحات المهمة التي أنتجها مفهوم "الوطن الأزرق" الذي ينص على أن المناطق البحرية هي مناطق استراتيجية لا غنى عنها للدول، تماما مثل الأراضي البرية، وقد وجد هذا المفهوم مكانه في السياسة الخارجية التركية ونظام التعليم.

 

وهناك أطروحة أخرى مهمة وهي فكرة أن الدول المتجاورة بحرا يمكنها جني مكاسب استراتيجية كبيرة من خلال الاتفاق الذي تعقده فيما بينها، وهو ما أطلق عليها اسم "اتفاقية ترسيم حدود الصلاحيات البحرية".

 

وحسب هذا الأميرال، فقد طبقت تركيا هذه الأطروحة في ليبيا، من خلال الاتفاق الذي وقعته في 2019، وتغيرت فجأة كل التوازنات في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط. ويقول جهاد يايجي في حوار مع الجزيرة نت (نشر بتاريخ 22/12/2023): "إن إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في قطاع غزة، سيغير كثيرا من التوازنات في الحرب (الإسرائيلية) الفلسطينية". بل يمكن حسب هذا الأميرال أن تكون هذه الاتفاقية أساسا لرفع الحصار عن غزة في المستقبل في الأمم المتحدة أو في المجال الدولي، لأن (إسرائيل) لا تستطيع فرض حصار ومنع فلسطين من استخراج النفط والغاز الطبيعي والأسماك في منطقتها البحرية، وستكون هذه المنطقة تحت السيادة الفلسطينية المزعومة، وسيكون نص الاتفاقية اختبارا يمكن أن يكشف عن موقف (إسرائيل) الخارج عن القانون وعدوانها ووحشيتها. ويمضي الأميرال التركي قائلا: "إذا أُبرمت هذه الاتفاقية، ستكون المنطقة البحرية الفلسطينية 20 مرة أكبر من المنطقة البحرية التابعة لقطاع غزة الآن، ويوجد بها بالفعل احتياطيات كبيرة من النفط والغاز".

 

ولمن أراد أن يصدق كل هذا الكلام الآن، ويمنح لتركيا الثقة اللازمة لينجر وراءها، فليس مطلوبا من تركيا أكثر من إدانة كيان يهود أمام محكمة العدل الدولية بشأن دعوى الإبادة الجماعية، ليقر المجتمع الدولي المنافق هذه الإدانة التي سيتحمل نتنياهو تبعاتها. وهو عين ما شرع في فعله أردوغان يوم 12/01/2024 قائلا: "إن تركيا قدمت وثائق لقضية رفعتها جنوب أفريقيا ضد (إسرائيل) أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة بتهمة ارتكاب إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين". ثم في حديثه للصحفيين في إسطنبول، قال أردوغان: "أعتقد أن (إسرائيل) ستتم إدانتها هناك. نحن نؤمن بعدالة محكمة العدل الدولية". (العربية، 12/01/2024).

 

ثانيا: مشروع القناة الجافة

 

هو مشروع تنموي اتحادي يربط الموانئ العراقية بأوروبا عبر تركيا. يقوم المشروع على فكرة عبور البضائع عبر طريق برّي وخطّ قطارات من البصرة في جنوب العراق، ولا سيّما من ميناء الفاو، (حيث تفرغ السفن القادمة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ حمولاتها)، باتجاه تركيا في شمال البلاد ومنها إلى أوروبا. والمفترض أن تستغرق الرحلة بواسطة الشاحنات حوالي 10-12 ساعة، بينما تستغرق رحلة القطارات أقلّ من ذلك داخل الأراضي العراقية.

 

بحسب تركيا، فإن هذا المسار البديل عن "ممر الهند" الذي أعلن عنه في قمة العشرين فعال للغاية حيث تكون التحويلات أقل، وأقصر، وأقل تكلفة، ولذلك هي تريد أن تشارك الإمارات العربية المتحدة وإيران والعراق بنشاط في هذا المشروع. كما أنها تناقش هذا المشروع مع دول الخليج الأخرى، لتصبح تركيا بذلك نقطة عبور ومركزا تجاريا عالميا وهمزة وصل بين الشرق والغرب، تماهيا مع نظرية بريجنسكي في بسط النفوذ على أوراسيا، وإسناد دور رئيسي لتركيا في هذا المشروع، حيث يرى أن من يضع يده على هذه المنطقة هو الأقدر على التحكم في الموقف الدولي، كما هو ثابت عبر التاريخ.

 

ولكن بدل أن تبحث تركيا عن مكان القوة الحقيقية في الأمة ضمن عمقها الاستراتيجي ومشروع الإسلام الحضاري، نراها ترضى لنفسها بأن تكون جزءاً من مخططات أمريكا في المنطقة وحارسا للنظام الدولي.

 

فتركيا الحالية، ترى أن هذا المشروع مرتبط بمدى توفّر بيئة دولية يمكنها أن تهضم مشروعاً من شأنه قلب ما هو معتمَد في طرق النقل بين الشرق والغرب، ولا سيّما فيما يتعلّق بالطاقة المصدّرة من الخليج صوب أوروبا.

 

وهنا نعود إلى حوار وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو مع الجزيرة الذي أكد أن ميناء حيفا (الإسرائيلي) الذي يعتمد عليه ممر الهند يعتبر من الموانئ الخطرة إذا استمرت الحرب، وأنه يشهد عدة مشاكل فضلا عن المشاكل الأمنية، ولذلك ترى تركيا نفسها أنها أكثر الدول أماناً في المنطقة وأن بنيتها التحتية جاهزة من نواحٍ عديدة وبالتالي فهي أسلم جسر عبور. وهذا ما يفسر تصريح أردوغان عقب استثنائه من ممر الهند، حيث قال: "لن يكون هناك ممر من دون تركيا، والخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب هو الخط العابر من تركيا". (الأناضول، 11/09/2023)

 

لهذا السبب، يجب أن تدعم السلطة الفلسطينية القادمة هذا الممر على حساب ممر الهند الذي يمر عبر كيان يهود، وكذلك سائر أنظمة المنطقة التي سارعت تركيا إلى مصالحتها ومنها دولة الإمارات التي أسندت إليها بناء مشروع الفاو في العراق لاسترضائها، في انتظار استرضاء مصر التي تعتمد كثيرا على قناة السويس، عبر إعادة ترسيم الحدود البحرية معها ومنحها منطقة بحرية إضافية تبلغ مساحتها 15 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل 1.5 ضعف مساحة جزيرة قبرص، حسب تصريحات الأميرال التركي جهاد يايجي. في المقابل، تقبل الأنظمة التي لم تقصر هي الأخرى باندماج (إسرائيل المعتدلة) في المنطقة.

 

خاتمة

 

وهكذا، نرى أن تركيا ومن ورائها أمريكا، تعول على نجاح الاتفاق السعودي الإيراني في إنتاج بيئة توافقٍ وتعاون على ضوء الأجندة الأمريكية في المنطقة، كما تعوّل على التقارب الذي حصل أخيراً بين دمشق وبقية الدول العربية لدعم آمال إنجاز تسوية سياسية تحمل استقراراً أمنيّاً بات ضروريّاً لضمان أمن تلك القناة. وتعوّل أيضاً على استمرار مرحلة التفاهمات التركيّة العربية منذ المصالحة مع السعودية والإمارات، ومروراً بالعمل عليها مع مصر، وانتهاء باستكشاف مبكر لاحتمالاتها مع دمشق، وهو ما يوفّر منطقاً سياسياً وجيوستراتيجياً لطريق نحو أوروبا المتقهقرة والخاضعة لأمريكا أكثر من أي وقت مضى، لتصبح تركيا حجر زاوية داخل هذا الطريق الذي لن ينهي حلم ممر الهند فحسب، بل سينهي معه طريق الحرير الصيني. أما الدول العربية، فلا نرى منها إلا استعدادا للانصهار في بوتقة مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة ولتدجين شعوبها، ولتصفية قضية فلسطين.

 

ختاما، فإن محاولات تركيا أردوغان تغليف كل هذا الدجل السياسي وهذا الخضوع للأجندة الأمريكية في فلسطين وغيرها فضلا عن تلك الجرائم النكراء في حق أهل الشام، بغلاف استعادة الإرث العثماني أو الانتصار للدين الإسلامي، ستبوء كلها بالفشل لأن حبل الكذب قصير، ولأن طوفان الأمة القادم لن يتراجع عن محاسبة كل خائن عميل باع بلده قبل أن يبيع غزة وكل فلسطين للكفار المستعمرين، ولأنه محال أن يجتمع في قلب المسلم حب راية التوحيد والخلافة مع حب صنم مصطفى كمال هادم دولة الخلافة.

 

وإننا على موعد بإذن الله، مع خلافة راشدة على منهاج النبوة تزيل الاستعمار وتنهي حالة الاستضعاف وتعيد للإسلام شوكته وهيبته. قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع