الأربعاء، 25 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في الموت تذكير بالله ولقائه، فهو عبرة للذاكرين

 

يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]. قال قتادة: كان رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ اللَّهَ أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ، ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ». وعن أبي الدرداء أن النبي ﷺ قال: «لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا طَأْطَأَ ابْنُ آدَمَ رَأْسَهُ: الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ وَالْمَوْتُ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوَثَّابٌ».

 

إن اليقين المتحصل لدى المسلم أن هذه الدنيا دار ممر وابتلاء، وأنّ مثل العابر فيها كمثل رجل استظل في ظل شجرة ثم ما لبث أن فارقها إلى وجهته. وهذا ما يُنتج عند المؤمن همّة في السعي وعملاً دؤوباً في الاستعداد وعدم الركون لهذه الدنيا، باعتبارها فانية، والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، ولا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ﴿فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 36].

وإن العمل هو ثمرة الإيمان، المترتبة على العلم. فمن أيقن بالموت وغفل عن الآخرة كان أحمق، ومن عرف حقيقة الدنيا ثم علّق بها قلبه كان ذلك حسرة عليه. يقول ابن القيم رحمه الله: "طائِر الطَّبْع يرى الحبَّة وعين العقل ترى الشّرك غير أن عين الهوى عميا. وإن الشر كلّه في الغفلة، والنجاة في الفطنة". وفي ذلك يقول رسول الله: « الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ». وإني لأرجو أن تكون كلماتي هذه تذكرة واعية تصل القلوب فتفقهها فتنقذ من الغفلة قلوباً وتذكرها بالله، علّها تنفعني يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

إنّ النفس البشرية مركبّة على الفتور والنسيان، والركون للدّعة والراحة، غير أنّ العاقل من داوم على محاسبة نفسه، وعرف منها نقاط ضعفها فقوّمها، وكانت أزمنة الدّعة طارئة عنده لا عادة. فكلّما مالت نفسه للدّنيا نهرها، وكلّما رأى منها ميلاً لزخرفها أدّبها حتى تستقيم، فلم يزل كذلك حتى يجدها كما يريد رب العالمين تأتيه طوعاً تقبل على جلاله بالحب، تحب لقاء الله فيحب الله لقاءها.

 

وفي هذا قولٌ جميل لابن القيّم: "تزخرفت الشَّهَوات لأعين الطباع فغضَّ عَنْها ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ و﴿أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ووَقع تابعوها في بيداء الحسرات وهَؤُلاء يُقال لَهُم ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ﴾. لمّا عرف الموفقون قدر الحَياة الدُّنْيا وقلة المقام فِيها أماتوا فيها الهوى طلبا لحياة الأبَد، لما استيقظوا من نوم الغَفْلَة استرجعوا بالجد ما أنهبه العَدو مِنهُم في زمن البطالة، فَلَمّا طالَتْ عَلَيْهِم الطَّرِيق تلمحوا المَقْصد فَقرب عَلَيْهِم البعيد، وكلما أمرت لَهُم الحَياة، حلى لَهُم تذكر ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾".

 

وفي حديث رسول الله ﷺ: «فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ» ويقول ﷺ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ». رواه أحمد

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُه وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ولْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» [تفسير القرآن العظيم لابن كثير]

 

لقد نطقت الحقائق الصارخة أن الموت مصيبة عظيمة، وليس أشد على المؤمن من فقد من يحب، لكنّ الله سبحانه قد جعل الموت ابتلاءً يزن به الناس وأعمالهم، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. فقد جعل الله في الصبر على هذه المصيبة أجراً عظيماً، لما فيها من الصبر على ألم الفراق. فليس سواء من يجعل الموت واعظاً له، ومن يراه مصيبة يندبها ويبكي لها بعينيه دون قلبه، فإذا انقضت فترة ذكر الموت عاد لما كان عليه من اللهو والغفلة. عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا تُوفي النَّبِيُّ ﷺ وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، جَاءَهُمْ آتٍ يَسْمَعُونَ حِسَّهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إن فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبة، وخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. [تفسير القرآن العظيم لابن كثير]

 

وإن رسول الله قد علّمنا: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ». ولم أرَ شيئاً يعين على طاعة الله، ويردّ طائر الهوى عن المؤمن أن يوقعه في المعصية إلّا ذكر الموت وما بعده من وحدة القبر ثم الوقوف بين يدي الملك الجبّار للحساب. فلذة المعصية كالوهم تدغدغ نفس المؤمن ساعة فإن لم تجد ما يجلوها وقع، وإلّا فإن طالب الجنّة يعلم أنّها حُفّت بما تكره النفس من اجتناب الهوى، وترك الشهوات.

 

وإنّ الله سبحانه قد جعل المسارعة والتنافس في أمر الآخرة مقدّماً على أمر الدّنيا؛ تَصْغِيراً لِشَأْنِ الدُّنْيَا، وَتَحْقِيراً لأمرها، وأنها دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: ١٦، ١٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النَّحْلِ: ٩٦]. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [القصص: ٦٠] وَفِي الْحَدِيثِ: «واللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أحدُكُم إِصْبَعَهُ فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِع إِلَيْهِ؟».

 

وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ هِيَ مَتَاعٌ، هِيَ مَتَاعٌ، مَتْرُوكَةٌ، أَوْشَكَتْ - وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ - أَنْ تَضْمَحِلَّ عَنْ أَهْلِهَا، فَخُذُوا مِنْ هَذَ الْمَتَاعِ طَاعَةَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

 

الإخوة الكرام: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن، قال له: إن ربّك يقرئك السلام". وهذه أولى البشريات بعد انتهاء فترة الامتحان، ونهاية الزرع الذي قدّمه المؤمن لربّه جلّ وعلا وهو مقدم عليه يرجو رحمته ويخشى عذابه. وعن ابن الزبير رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَخْرُجُ فِي طَلَبِ عِلْمٍ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوْ فِي انْتِسَاخِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرَسَ إِلَّا كَانَ كَالْغَادِي الرَّائِحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ يُبْطِئْ بِهِ عَمَلُهُ لَا يُسْرِعُ بِهِ نَسَبُهُ».

 

وإنّ مما يلفت النظر لوجوب المسارعة في الطاعات والتقديم لها قول رسول الله ﷺ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ، وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا». فحتّى عند قيام الساعة يلفت رسول الله أنظارنا أنه إن استطعت أن تعمل عملاً صالحاً في ذلك الظرف العصيب فلا تبخل على نفسك به. وما دام المؤمن في بحبوحة الوقت، له على الدنيا نفس فهو أولى بغرس الثمار الطيبة، مسارعة إلى الله وجنّته.

 

"وإن مما يجب أن يلاحق المرء بل ويرافقه ويلتصق به على الدوام، هي أسئلة فلنسمِّها أسئلة التذكرة: كم بقي من عمري قبل موتي؟ وكم بقي من صحتي؟ وكم بقي من غناي؟ وكم بقي من شبابي؟ وكم بقي من فراغي قبل شغلي؟ وهل في الغد بعد الموت من استدراك لما قد فاتني؟" [من مقال نظرة وتذكرة للحظات العيش الباقية، لحامل دعوة].

 

وفي ختام هذه المقالة فإني أرجو الله أن يعيننا وإياكم على العمل بما فيها وألّا أكون جسراً يُعبر به إلى الجنة ثم يلقى في النار، وأن يقبل الله سبحانه أعمالنا خالصة لوجهه ويعيننا في هذه الشهر الفضيل على ذكره وشكره وحسن عبادته، إن ربّي لمجيب الدعاء.

 

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

 

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بيان جمال – الأرض المباركة (فلسطين)

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع