الأربعاء، 25 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الابتلاءات والمحن: نِعَمٌ مخفية

(مترجم)

 

قال رسول الله ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ».

 

غالباً ما يكون من الصعب رؤية الجانب الإيجابي في الخسارة، أو المصيبة، أو المأساة، بما في ذلك الوباء الحالي. فالألم الذي نشعر به من وفاة شخص عزيز، والمعاناة التي نمر بها بسبب اعتلال الصحة، والقلق الذي نعاني منه خلال الصعوبات المالية، وخيبة الأمل التي نشعر بها عندما لا نتمكن من تحقيق هدف مهم في حياتنا يمكن أن تستهلك في بعض الأحيان انتباهنا وتملأنا بالأفكار والعواطف المظلمة.

 

ومع ذلك، يخبرنا ديننا أنه ليس من المحتم أن تكون هذه الأمور مجرد اختبارات ومحن في حياتنا بل هي مصدر نعمة لنا كمؤمنين. والواقع أنها من نِعم الله على المسلم. فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾. وروى أنس رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ». وقال أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». ومن ثم، فإن الاختبارات والمحن هي فرصة لنثبت لربنا سبحانه وتعالى أننا صادقون في إيماننا من خلال التحلي بالصبر والثبات على ديننا أمام ما فرضه الله سبحانه وتعالى، في المقابل، وعدنا الله تعالى بركته ورحمته وغفرانه وثوابه. وبالفعل هذا هو النجاح الحقيقي في الحياة، لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

 

وبالتالي، فإن الخسارة والمصائب والآلام توفر لنا فرصة للاقتراب من ربنا سبحانه وتعالى ولرفع درجاتنا في الآخرة وتحقيق النجاح في هذه الحياة والآخرة؛ لأنها وسيلة لتطهير أنفسنا وتفكيرنا وأفعالنا وتطلعاتنا، بعيداً عن أي نقاط ضعف وشوائب قد تتعارض مع ديننا، أو مع الانصياع لأوامر الله سبحانه وتعالى. في الواقع، الإيمان أغلى من الذهب، ومن ثم فهو يحتاج أيضاً إلى الخضوع للحرارة والاختبارات لإزالة الشوائب لجعله نقياً وقوياً وجديراً بالجنة، كما يحدث للذهب عندما تتم تنقيته في نار ساخنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "العوارض والمحن هي كالعوارض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها - لا بد من الابتلاء، ولا بد من المحنة - لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن، وإنما يعلم أن هذا ابتلاء من الله يريد الله به أن يزيد له في حسناته، ويكفر به عنه من سيئاته، ويرفع له في درجاته، فيحمد الله على المحنة". ولذلك تقدم لنا اختبارات الله سبحانه وتعالى فرصة للارتقاء إلى مستوى أعلى في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، إذا استجبنا لها بالطريقة الصحيحة.

 

لجني الفوائد الحقيقية لعملية التطهير هذه وتحقيق النجاح في الدنيا والآخرة، فإنه يتوجب علينا كمؤمنين استغلال الاختبارات، بما في ذلك الوباء الحالي، كوسيلة للمحاسبة الذاتية الصادقة، وإعادة التقييم وإعادة معايرة حياتنا. عندما نتأذى من خسارة أو مصيبة، يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه يجب أن نقول "إنا لله وإنا إليه راجعون". لا ينبغي أن تكون هذه الجملة مجرد كلمات نلفظها، بل يجب أن تجعلنا نتوقف ونفكر ونتأمل ونتغير. يجب أن يكون هذا تذكيراً لنا بمدى ضعفنا كبشر مقارنةً بعظمة ربنا، ومدى حاجتنا لدعمه وتوجيهه في كل مجال من مجالات حياتنا. يجب أن يكون هذا الوباء بمثابة تذكير بأن الأشياء في هذا العالم هي أمور مؤقتة - مثل ثروتنا، ووظائفنا، وعائلتنا، وأطفالنا، ومنازلنا - وكيف يمكن أن تضيع في غمضة عين. نرى مع هذا الوباء، أنه حتى الأشياء الأساسية التي اعتبرناها أمراً مفروغاً منه - مثل مغادرة منازلنا أو الاجتماع مع الأصدقاء والعائلة - يمكن إزالتها بين عشية وضحاها. ويجب أن يكون هذا تذكيراً لنا بأننا لا ننتمي إلى هذا العالم وأنه ليس وطننا الحقيقي بل في النهاية سنعود إلى الله سبحانه وتعالى وسيكون وطننا الحقيقي هو الجنة بإذن الله.

 

كل هذا يجب أن يدفعنا إلى التساؤل عن أولوياتنا في الحياة - هل هي وفقاً لما حدده ربنا - مثل السعي من أجل قضيته وإقامة نظامه، الخلافة على منهاج النبوة، أم أولوياتنا هي متابعة الانبهار المؤقت بهذا العالم والسماح له باستهلاك وقتنا واهتمامنا؟ يجب أن يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كنا قد أعطينا هذه الدنيا وزناً أكبر مما تستحقه مقارنة بالآخرة، بحيث نفشل في الوفاء بالتزاماتنا الإسلامية بسبب إغراءات الحياة أو الخوف من فقدان مصالحنا وطموحاتنا الشخصية؟ وينبغي أن يدفعنا إلى التساؤل عن علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، وما إذا كنا قد أعددنا أنفسنا بما يكفي لمواجهته سبحانه وتعالى والوقوف بين يديه، فيما إذا كنا قد نفذنا جميع أوامره وعشنا الحياة وفقاً لأوامره - لأنه بلا شك، الوقوف بين يدي ربنا هو مصيرنا؟ يجب أن تؤدي إعادة تقييم حياتنا هذه إلى تغيير في تفكيرنا وأولوياتنا وشخصياتنا وأفعالنا إن شاء الله بحيث تتماشى مع ما يتوقعه منا ديننا، والعمل على التغلب على أي نقاط ضعف في صفاتنا أو تعيقنا عن التزامنا بأوامر الله مما يمنعنا من الحصول على أعلى الدرجات في الجنة، وإلا فشلنا في فهم واحدة من النعم والعطايا الحقيقية التي قدمها لنا الله سبحانه وتعالى من خلال اختباراته ومحنه: لتحقيق النجاح الحقيقي في هذه الدنيا وفي الآخرة.

 

يجب أن تحفزنا الآلام التي تصيبنا كأفراد، أو كأمة، بما في ذلك جائحة الفيروس التاجي هذا، على التفكير في الحقائق السياسية للعالم الذي نعيش فيه، وفحص ما إذا كانت هذه الحقائق سببت أو فاقمت الأزمات والمشكلات التي نواجهها مما أدى لدعم الخسارة والمصاعب والمصائب أمامنا. على سبيل المثال، نشهد اليوم تصدعات شديدة في أنظمة الرعاية الصحية في البلدان حتى في أكبر اقتصادات العالم؛ الحكومات التي وضعت حماية المصالح الاقتصادية فوق صحة شعبها، حتى إنها فشلت في ضمان ما يكفي من معدات الحماية الشخصية للعاملين في المجال الطبي والرعاية؛ هشاشة النماذج المالية التي هي من صنع الإنسان للدول؛ وفشل الأنظمة في البلاد الإسلامية في التعامل مع العدوى بطريقة تحافظ على سلامة الأمة والدين مثل الحفاظ على صلاة الجمعة المفروضة. كل هذا هو نتيجة لأنظمة الحكم الرأسمالية والاشتراكية وغيرها من أنظمة الحكم التي صنعها الإنسان والتي فشلت في تلبية احتياجات شعوبها. رؤية كل هذا، يجب أن تلهمنا بالتأكيد بالحاجة إلى التغيير، وتعزيز عزمنا على إيجاد عالم أفضل لهذه الأمة والبشرية، وتعزيز إيماننا بالحاجة الملحة لإعادة الخلافة التي ستوفر قيادة تهتم بصدق بالإنسانية وتحتضن مبادئ وقوانين سليمة لحل جميع المشاكل التي نواجهها، والتي ستحمي دائما مصالح الإسلام والأمة.

 

على سبيل المثال، في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى للمسلمين أن الهزيمة والمصيبة التي أصابتهم في معركة أحد كانت لأن الرماة على قمة التلة خالفوا أوامر رسولنا، وبالتالي فإنهم قد عصوا أمر الله سبحانه وتعالى، بالتخلي عن موقعهم بسبب رغبتهم في الحصول على غنائم الحرب، على الرغم من أنه طلب منهم البقاء صامدين في مواقعهم. قال تعالى عن هذه المعركة: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾. لقد كان درساً ثقيلاً تعلموه؛ أن عصيان أمر الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى الفشل والمصائب في الحياة.

 

وبالمثل، فإن الطريقة الكارثية التي أدارت بها الحكومات في البلاد الإسلامية وخارجها هذه الأزمة الحالية، وفشلها في حماية صحة شعوبها بشكل ملائم، تسبب في مصاعب اقتصادية كبيرة عليها، وتسبب في حرمانها من القدرة على الوفاء بالتزامات إسلامية مهمة، مثل صلاة الجمعة بسبب "نسخ ولصق" نهج الدول الغربية تجاه هذا الوباء، يجب أن يكون بالتأكيد درساً مهماً بالنسبة لنا لمعرفة عواقب عصيان ربنا، بالتخلي عن تطبيق نظام الخلافة.

 

لذلك، فإن الاختبارات والمحن هي فرصة لتعلم الدروس في الحياة، ووضع الأشياء في حياتنا في منظور المراقبة، وإعادة تقييم ما إذا كنا نعيش وفقاً لما يطلبه خالقنا منا، وفرصة لخلق تغيير إيجابي حقيقي داخل أنفسنا، وأرضنا وعالمنا. في الواقع، النجاح في حياتنا الشخصية كمسلمين، والنجاح كأمة في هذه الدنيا، والنجاح في الآخرة يمكن أن يحدث فقط من خلال الطاعة الكاملة لجميع أحكام الله سبحانه وتعالى. قال ابن تيمية: "إن المصيبة التي تجعلك تلتجئ إلى الله أفضل من البركة التي تنسى فيها ذكر الله".

 

في الأوقات العادية، غالباً ما ننغمس في روتين حياتنا اليومية سواء أكان ذلك في العمل، أو في نقل الأطفال من وإلى المدرسة، أو الأنشطة المجتمعية، أو حضور الكلية أو الجامعة، وغيرها من الإجراءات التي تستهلك اهتمامنا ووقتنا. ومع ذلك، فإن فترة الإغلاق هذه، حيث التزم كثير منا في منازلهم، تتيح لنا الوقت للتفكير في حياتنا، وعلاقتنا مع أزواجنا أو أسرتنا، ومسؤولياتنا تجاه أطفالنا، وعالمنا. إذا فشلنا في استغلال هذه الفرصة لإحداث تغيير حقيقي داخل أنفسنا وتقوية عزمنا على إحداث تغيير إيجابي في أراضينا وفي هذا العالم، فهي الخسارة الحقيقية والمصيبة التي ستلحق بنا. قال العالم ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة: "إذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان... وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجني من قطوف الابتلاء والامتحان؟".

 

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

د. نسرين نواز

مديرة القسم النسائي في المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع