الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وقفات في حياة السلطان أورنك زيب... بقية الخلفاء الراشدين

 

قليل من المسلمين في وقتنا الحالي يعرفون عن عمالقة الإسلام، ومن عملوا على رفعته وعلو شأنه، في زمن غُيِّب فيه تاريخهم وطُمست فيه أعمالهم العظيمة، واستُبدل مكانه في مناهج التعليم ووسائل التعليم تاريخ قادة الغرب المجرمين ومفكريه الضالين، فغاب عن أذهان الأجيال الجديدة المسلمة القادةُ من أجدادهم الفاتحين ممن رفعوا راية التوحيد خفاقة فوق ربوع العالم، وحكموا بعدل وإنصاف لم يعرف تاريخ البشرية له مثيلاً، حتى أصبحوا كالأساطير التي لا يمكن أن يصدقها من عاش في زمان الانحطاط الذي تعيش فيه البشرية اليوم ومنذ زوال الإسلام سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بزوال دولة الخلافة، وهيمنة الأنظمة العلمانية التي شقَت في ظلها البشرية إنسانيا، وضاق فيها العيش اقتصادياً، وسُحقت الشعوب سياسيا، وتخلفت علميا وتقنيا في زمن حقوق الملكية الفكرية!

 

إنّ من هؤلاء العمالقة والأساطير في التاريخ الإسلامي السلطان المغولي (أورنك زيب). وُلد السلطان أورنك زيب في بلدة دوحد في كجرات بالهند، في 15 من ذي القعدة 1028هـ، الموافق لـ24 من تشرين الأول/أكتوبر 1619م، وهو سلطان عظيم لا يكاد يعرفه أحد، وأسد جسور، وليث هصور، وإمام همام، وأحد عمالقة الإسلام، أذلَّ الله به الكفر وزلزل الطغيان، وقوَّض عروش أهل الإلحاد في ربوع مملكته والأوطان، وحارب الفساد وأهله في كل مكان، وأتى على بنيان الظلم والظلمة من القواعد حتى خرَّ عليهم السقف من فوقهم، وأرغم الجبابرة على الانقياد لله عز وجل والرسول e، وجعل المهانة والصغار على كل مَنْ أبى قبول الحق بعد أن أُقيمت عليه من الله الحجة والبرهان، وسلك بالمسلمين في أيامه سبيل الاستقامة وطريق المحجة البيضاء، والناصح الأمين للخاص والعام، والمجدِّد لهذا الدين أمره في سابق الأزمان وغابر الأيام، حتى لُقِّب ببقية الخلفاء الراشدين.

 

إن العظماء من قادة المسلمين ينشأون نشأة متميزة تظهر فيها علامات القيادة الحقيقية، منذ نعومة أظفارهم، وقد ظهرت من (أورنك زيْب) مذ صغره علامات الجد والإقبال على الدين والبعد عن اللهو والعبث، وكان فارسا شجاعا لا يُشق له غبار، ونشأ وترعرع على مذهب الإمام أبي حنيفة، أي تربى تربية إسلامية خالصة لا تشوبها شائبة، وقد تولى الشيخ محمد معصوم السرهندي ابن الشيخ أحمد السرهندي تربيتَه، وبذل له رعايته كلها، فتعلم (أورنك زيب) القرآن وجوّده، وتعلم الفقه الحنفي وبرع فيه، والخط فأتقنه، وتعلم الفروسية والقتال، ونشأ رحمه الله محباً للشعر فكان شاعرا، وتعلم اللغة العربية والفارسية والتركية... على خلاف حكام المسلمين اليوم، الذين يربَّوْن في قصور لا يُتلى فيها كتاب الله، ولا يُعلَّمون إلا الثقافة الغربية واللغات الأجنبية، وتُسند للمربيات والمدرسين الأجانب تربيتهم وتدريسهم، فينشأون كأنهم أبناء للغرب، وفي أحيان كثيرة لا يتقنون حتى لغة قومهم، وبعد أن يصيروا في سن الشباب يُرسلون إلى جامعات الغرب ومعاهدهم، حتى باتت جامعة "سانت هيرست" الدينية العسكرية البريطانية قبلة أبناء حكام المسلمين، حيث يتم إرسالهم إليها ولغيرها من الجامعات المماثلة حتى تكتمل فيهم مكونات الشخصية الغربية، فيعودوا بعد تخرجهم منها ليحكموا المسلمين بالكفر والحديد والنار، كضباط غربيين مبعوثين من الدول الاستعمارية للحفاظ على الأنظمة التي فرضها الكافر المستعمر على بلاد المسلمين ولخدمة مصالح الغرب ونهب ثروات بلاد المسلمين.

 

إنّ من كانت نشأته على الإسلام وفي مقدوره إصلاح المعوج من أمر السلطان أو تغيير الواقع الفاسد، لا يقبل الحلول "الوسط" أو الحلول الترقيعية، ولا يقبل أن يجامل في الحق أو يداهن الباطل، فالمسلم ينظر إلى الأمور من منظار الحق والباطل ولا يرى بينهما ثالثاً مقبولاً، لذلك لما لاحظ (أورنك زيب) تكاسلَ والده في الحكم بالإسلام وكان يرى في نفسه القدرة على إصلاح المعوج في سلطنة والده، قام بتنحية والده وإخوته عن الحكم، وأعلن نفسه سلطاناً على البلاد، وكان يبلغ من العمر وقتها 40 سنة، ولم يركن أورنك زيب إلى الدعة والراحة، بل ظل في جهاد دام 52 سنة حتى خضعت شبه القارة الهندية للإسلام، من مرتفعات الهيمالايا إلى المحيط، ومن بنغلادش اليوم إلى حدود إيران، فشهدت سلطنة المغول الإسلامية في الهند في عهده أقصى امتداد لها؛ وذلك يرجع إلى الجهود العسكرية التي بذلها السلطان؛ حيث لم يبقِ إقليماً من أقاليم الهند إلا وأخضعه تحت سيطرته، فاستطاع أورنك زيب تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية مربوط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة، تدين بالولاء لدولة الخلافة العثمانية في إسلامبول، وقد خاض المسلمون في عهده أكثر من 30 معركة، قاد بنفسه 11 معركة منها وأسند الباقي إلى قوَّاده.

 

يظهر الحكم الرشيد لأي سلطان من الممارسات العملية وليس الشعارات الجوفاء، فمن ادّعى إنشاء دولة مثل دولة المدينة المنورة فإن عليه تطبيق الشرع الذي طُبق في المدينة، وليس الاكتفاء برفع الشعارات، أما السلطان أورانك زيب فإنه حين استلم الحكم قد ألغى 80 نوعاً من الضرائب، وفرض الجزية على غير المسلمين بعدما ألغاها أجداده، وأقام المساجد والحمامات والخانقات والمدارس والمستشفيات... وأصلح الطرق وبنى الحدائق، وأصبحت دهلي في عهده حاضرة الدنيا، وعيّن القضاة وجعل له في كل ولاية نائباً عنه، وأعلن في الناس أنه "مَنْ كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه"، ومنع الاحتفال بالأعياد الوثنية (مثل عيد النيروز)، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان واكتفى بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وعيّن للقضاة كتاباً يفتون به على المذهب الحنفي، فأمر بتأليف الكتاب تحت نظره وإشرافه، واشتهر الكتاب باسم "الفتاوى الهندية"، ولم يتعذر بالانشغال في شئون الحكم عن كتاب الله حيث أتمَّ السلطان حفظ القرآن الكريم وهو على كرسي الحكم.

 

ومن مظاهر حكم أورانك زيب الرشيد إنفاذه أموراً لم تكن سائدة في عصره، من مثل أنّه لم يكن يعطي عالما أعطية أو راتبا إلا وطالبه بعمل، بتأليف أو تدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع السيئتين، فأخذ المال بلا حق وكتم العلم، وكان رحمه الله يخضع للمشايخ ويقربهم ويستمع إلى مشورتهم ويعظم قدرهم، وقد أمر قوّاده بالاستماع إلى مشوراتهم بتواضع شديد، لما يحملونه من فقه شرعي، يحتاج إليه الحكام في حكمهم بما أنزل الله، وعندما سمع أن نائبه بالبنغال اتخذ مثل العرش يجلس عليه نَهَرَه وعنّفه وأمره بالجلوس بين الناس كجلوسهم، وهذا خلاف ما هم عليه الحكام الظالمون اليوم، الذين يغدقون المال على العلماء لشراء ذممهم، حتى وجد ما يعرف بعلماء السلاطين وعلماء الدينار، ومنهم من يتقاضى على فتاويه التي يبرر فيها للسلطان أعماله الشنيعة ملايين الدنانير والريالات والروبيات، مثل كثير من علماء الحجاز وكثير من المفتين في مختلف بلاد المسلمين، وهم من قبيح القوم وليسوا من الأتقياء الأنقياء الذين يحاسبون الحاكم إن أخطأ ويقوّمون اعوجاجه، ولا يخافون في الله لومة لائم!

 

إن الخليفة الراشد لا يختفي أثر حكمه الرشيد بوفاته، بل تظل أعماله الصالحة قائمة وصدقاته جارية في حياة الناس إلى أن يشاء الله، أما (أورانك زيب) فقد بنى مسجد "بادشاهي" في لاهور، المسجد الذي ظلَّ إلى الآن شاهداً على عصر عزِّ المسلمين وتمكينهم. توفي السلطان عن عمر يناهز الـ90 عاماً، في 28 من ذي القعدة 1118هـ، الموافق لـ20 من شباط/فبراير 1707م، بعد أن حكم 52 سنة، وكان قد بلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر المسلمين وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات!

 

هكذا فإن حكم المسلمين الراشدين مهما طال لا يُقال إنه يجب أن يُحد وينتهي بزمن معين، كما هو الأمر الآن بالنسبة لحكام زماننا، فالحكام في الإسلام يحكمون بكتاب الله وسنة نبيه e، ومهما طالت فترة حكمهم يظل حكمهم رشيدا، أما من يحكم بما تمليه عليه نزواته ورغباته ولصالح فئة الحكام ومن شايعهم، فإنه لا يقوى إلا على جر البلاد نحو الفساد والظلم.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بلال المهاجر – ولاية باكستان

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع