{وكونوا مع الصادقين}
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطاً } وقال جلّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وقال سبحانه وتعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} صدق الله العظيم.
في سبب نزول الآية: {واصبر نفسك} قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس، ونحَّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم (يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها) جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدّل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً . واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطاً . وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} يتهدّدهم بالنار، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، قال: «الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجالٍ من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات». وهذا مثل قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
أخرج ابن ماجه في سننه عن خبّاب أن الأقرع ابن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، وغيرهما وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع صهيب وبلال وعمّار وخبّاب، قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقروهم، فأتوه فخَـلَوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا. فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد. فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة ودعا علياً رضي الله عنه ليكتب ونحن قعـود في ناحيـة. فنزل جبريل بالوحي: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}..... ففي الآية الأولى، دعوة صريحة قوية لرسول هذه الأمة، ولأمته من بعده أن يحبسوا أنفسهم مع المؤمنين الصادقين، الذي يدعون ربّهم، ويدعون إلى دين ربهم، طرفي النهار {بالغداة والعشي} أي في أوقات انشغال الناس بأعمالهم، فهم من باب أولى يذكرون الله، ويقومون بما أمرهم الله به، في أوقات الفراغ، طمعاً في نوال مرضاة الله. وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أوكل إليه مهمة الإشراف والرعاية، أن يراقب أحوال من كانوا تحت إشرافه، يتفقد أوضاعهم، ويشاركهم في مناسباتهم، ويطمئن إلى سلامة أوضاعهم النفسية والمعيشية، ويتعهد شخصياتهم بالصقل والبناء، لينتقل بهم من حال إلى حال أحسن بشكل ارتقائي دائم. {ولا تعد عيناك عنهم} أي لا تنصرف عيناك عنهم، والمعنى لا تصرف عينيك عنهم. قال الزجّاج: إن المعنى لا تصـرف بصـرك عنهـم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
وهذه دعوة أخرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى أمته من بعده، أن تقريب الناس يكون بحسب قربهم من ربهم، وأن إبعادهم يكون بمقدار بعدهم من الله، فلا مكانة لمن كان عاصياً لله، غاشاً لأمته، مجافياً لكتابه. ولا شرف ولا سؤدد إلاّ في خدمة دين الله، وصدق رسول الله فيما روي عنه في دعاء القنوت: «فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت». وهذه الدعوة موجهة بشكل أخص، إلى مسؤولي الحركات الإسلامية، أن لا يقرّبوا أحداً من جماعتهم إلاّ بمقدار قربه من الله، وليس بمدى الخدمات التي يمكن أن يقدّمها إلى الحركة، وأن يكون المقرّبون وأصحاب المسؤوليات من الأتقياء والأنقياء ولو كانوا فقراء، وأن يكونوا من ذوي النفسيات الراقية، والعقليات النيّرة، لا أن يكونوا من ذوي الطلاقة في اللسان، والبراعة في تقريب الناس، إن كانت نفسياتهم خاوية. لأن للمسؤولية واجباتها ومتطلباتها، فمن لم يكن متمتعاً بهذه المتطلبات، ينكشف، فيأخذ بمداراة عجزه وقصوره، فيقع في مزيد من الأخطاء، وأخيراً ينتهي به المطاف إلى القعود أو الانحراف.
وهناك دعوة عامة شاملة جميع المسلمين، أن يكونوا مع الصادقين: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }، واختلف في من هم الصادقون، فقيل هم الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، ولم يتخلفوا عنه، كما يدل سياق الآية من أواخر سورة التوبة؛ وقيل هم الأنبياء، أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة؛ وقيل هم المهاجرون الذين ورد ذكرهم في سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون }؛ وقيل هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم؛ قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى، فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة، والتعارض بين القول والفعل.
ويجب على أبناء الأمة أن يتحروا الفئة الصادقة المخلصة، ليكونوا معها يدعمونها بتكثير السواد، وبرد الأذى عنها، وهذا يقتضي تحديد الأساس الذي يحكم بموجبه على الفئات، وهذا الأساس هو مدى انطباق نهجها على منهج الرسول الكريم، ومدى قوة ارتباط أفكارها وأحكامها وآرائها مع القرآن الكريم والسنة النبوية، ومدى انطباق تصرفاتها مع طروحاتها النظرية. فليس من الصدق التوليف بين أحكام الإسلام ووقائع الحياة الحاضرة، فالإسلام هو الأصل الذي يضبط الحياة؛ وليس من الصدق القبول بالحلول الجزئية، والترقيعات المجتزئة، فالإسلام لا يقبل أن يشترك معه غيره في الحاكمية: {إن الحكم إلاّ لله}؛ وليس من الصدق ممالأة الظلمة والفاسقين والكافرين: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله}؛ وليس من الصدق، بل من النفاق، إظهار شيء وإخفاء خلافه، بحجة المصلحة، ولدفع الأذى، وجلب المنافع؛ وليس من الصدق الميكيافيلية، والغاية تبرر الواسطة، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً؛ وليس من الصدق الخنوع والاستسلام والرضا بالواقع، فالله يحب من الأمور معاليها؛ وليس من الصدق التنكب عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بدواعي تغير الأحوال والأزمان والمجتمعات، فالرسول يجب التأسي به: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }.
هذه بعض الأسس التي يجب أن تكون منطلقاً للحكم على الأفراد والفئات أنها صادقة مخلصة، أو أنها منافقة مطعون في صدقها وإخلاصها. والمسلمون مأمورون بفرز هذه الفئات، والذين يتصدرون لقيادتهم، وللعمل العام، ليكونوا مع الفئة الصادقة، والرجال الصادقين، عوناً لهم في أعمالهم، يذبّون عنهم بكل ما أوتوا من قوة، يحفظونهم في غيبتهم، يدفعون عنهم سهام التشكيك، ويؤازرونهم بتكثير سوادهم، والقيام معهم بأعمالهم؛ ثم هم مأمورون بفضح الفئات الضالة المضلة، أو المنافقة الموجَّهة، لإبعاد الناس عنها، وسحب أبناء المسلمين من عضويتها، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى .