الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط ح29 انقسامات الدولة

بسم الله الرحمن الرحيم


حياكم الله احبتنا الكرام، ويتجدد لقاؤنا معكم،، وسلسلة حلقات الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط


قلنا أن الأندلس كانت تواجه موجة من الصراعات العارمة، مما أدى إلى اجتماع العلماء وعلية القوم من أهل الأندلس، لحل المشكلة وإيقاف الصراعات، فقاموا بإنشاء مجلس الشورى لإدارة البلاد وولوا عليه أبا الخزم والذي لم يستطع السيطرة إلا على قرطبة فقط من بلاد الأندلس، أما بقية البلاد والأقاليم الأخرى فقد ضاعت السيطرة عليها تماما، وبدأت الأندلس بالفعل تقسم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة، وقد سمي ذلك العصر بعهد ملوك الطوائف.


وهو العهد الذي قسمت فيه بلاد الأندلس إلى سبعة أقسام شبه متساوية، كل قسم يضم إما عنصرا من العناصر، أو قبيلة من البربر، أو قبيلة من العرب، أو أهل الأندلس الأصليين، بل إن كل قسم أو منطقة من هذه المناطق كانت مقسمة إلى تقسيمات أخرى داخلية، حتى وصل تعداد الدويلات الإسلامية داخل أراضي الأندلس عامة إلى اثنتين وعشرين دويلة، وذلك رغم وجود ما يقرب من خمس وعشرين بالمئة من مساحة الأندلس في المناطق الشمالية في أيدي النصارى. فتفتت المسلمون في الأندلس تفتتا لم يعهد من قبل في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصرا مهما جدا من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشد ما يكون.


من المعلوم أن الجزية يدفعها أهل الذمة للدولة الإسلامية، ولكن بعد هذا الضعف والتفكك لدولة الأندلس أصبح أمراء الدويلات المقسمة يدفعون الجزية إلى ألفونسو السادس ومن معه، إلا أنه كان هناك رجلا واحدا كان يملك عزة وأنفة، ولم يرض بدفع الجزية، وهو المتوكل بن الأفطس أمير مملكة بطليوس.


فبالرغم من الذل والهوان الذي عم وطم المسلمين هناك، وبالرغم من التشرذم والضعف والهوان إلا أن المتوكل بن الأفطس لم يكن يدفع الجزية للنصارى، وبالطبع فقد كان النصارى ينظرون إلى هذا الرجلِ على أنه مارق وخارج عن الشرعية، تلك التي كانت تحكم البلاد في ذلك الوقت؛ حيث خرج عن المألوف واعتزَّ بإسلامه ولم يقبل الذل كغيره من أبناء جلدته.


وهنا أرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية كما كان يدفعها غيره من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فكان من نبأ المتوكل بن الأفطس أنه أرسل له ردا عجيبا، أرسل إليه برسالة حفظها التاريخ ليعلم قارئيه أن المؤمن وهو في أشد عصور الانحدار والانهيار إذا أراد أن تكون له عزة فلا محالة هي كائنة، يقول المتوكل بن الأفطس في رسالته:


وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنودا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون، بالتقوى يعرفون وبالتوبة يتضرعون، ولأن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.


ما تعييرك للمسلمين فيما وهى من أحوالهم فبالذنوب المركومة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى بناته إليه. وكان ملك نافار جد ألفونسو السادس قد أرسل ابنته هدية إلى المنصور حتى يأمن جانبه، وهي أم عبد الرحمن بن المنصور الذي انتهت بحكمه الدولة العامرية كما ذكرنا.


ويضيف المتوكل بن الأفطس قائلا أما نحن إن قلَّتْ أعدادنا وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: نصرا عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت.


فما كان من ألفونسو السادس إلا أن وجم ولم يفكر ولم يستطع أن يرسل له جيشا، فقد غزا كل بلاد المسلمين في الأندلس خلا بطليوس، لم يتجرأ على أن يغزوها، فكان يعلم أن هؤلاء الرجال لا يقدر أهل الأرض جميعهم على مقاومتهم، فأعز الإسلام ورفع من شأن المتوكل بن الأفطس ومن معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرد أن لوحوا بجهاد لا يرضون فيه إلا بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة.


ولكن وللأسف، بعض النفوس البشرية استبدلت العز والفخار بالذل والهوان، كما حصل في الشمال الشرقي للأندلس وبالقرب من فرنسا، وبالتحديد في سرقسطة التي كان يحكمها بنو هود، وكان لحاكم سرقسطة ولدان فأراد أن يستخلف أحدهما للحكم من بعده، ولئلا يظلم أيا منهما كما خيل له فقد قام الأب الحاكم بعمل غريب لم يتكرر في التاريخ؛ حيث قسم الدويلة، الأرض والشعب والجيش، كل شيء إلى نصفين لكل منهما النصف.


يموت الأب وتمر الأيام ويختلف الأخوان على الحدود فيما بينهما، فيقوم أحدهما بالهجوم على أخيه لتحرير حقه وأرضه المسلوبة، ولأنه لم يكن له طاقة بالهجوم لأن الجيش مقسم والكيان ضعيف، فما كان من هذا الأخ إلا أنه استعان بملك نصراني ليحرر له أرضه من أخيه المسلم.


لم يستمع هذا الأخ ما قيل له من أن هذا الملك النصراني سيأخذ هذه الأرض ويضمها إلى أملاكه، فكان اعتقاده أن ملك برشلونة (مملكة أراجون) رئيس دولة صديقة، ويستطيع أن يأخذ له حقه من أخيه، وكان كل همه أن يظل ملكا على دويلته، وملكه لا بد وأن يعود إلى حوزته.


وبالفعل جاء النصارى ودخلوا البلاد، وأحدثوا من المآسي ما يندى له الجبين، ومن أشهر أفعالهم فيها ما عرف في التاريخ بمأساة بربشتر.


بدأ الأمر بالحصار وذلك في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وأربعمئة من الهجرة، وظل مداه طيلة أربعين يوما كاملة والمسلمون في الداخل يستغيثون بكل أمراء المؤمنين في كل أرض الأندلس، ولكن لا حراك، فالقلوب تمتلئ رهبة من النصارى، وأمراء المسلمين يعتقدون بأنهم ليس لهم طاقة بحربهم أو الدفاع عن إخوانهم ضدهم، وفكروا بأن يستعينوا بدولة أخرى غير تلك الدولة الصديقة المعتدية، وظلوا الأربعين يوما يتفاوضون ويتناقشون حتى فتح النصارى بربشتر.


فقتلوا من المسلمين أربعين ألفا، (من رواية ياقوت الحموي، وهناك رواية أخرى تزيدهم إلى مئة ألف) وسبوا سبعة آلاف فتاة بكر منتخبة (أجمل سبعة آلاف فتاة بكر في المدينة) وأعطين هدية لملك القسطنطينية، وأحدثوا من المآسي ما تقشعر منه الأبدان وتنخلع منه القلوب؛ إذ كانوا يعتدون على البكر أمام أبيها وعلى الثيب أمام زوجها، والمسلمون في غمرة ساهون.


ومثل هذه الصورة لا نعدمها عبر التاريخ حتى يومنا هذا ليس في حقل الصراع بين المسلمين والنصارى فحسب، بل إن حكام الرويبضات وزبانيتهم ممن يحسبون زورا وبهتانا على الإسلام وأهله، فعلوا هذه الأفعال وأكثر في المسلمات في سوريا وليبيا وغيرها من البلاد التي انتفضت وقالت للظالم: يا ظالم، الأمة تريد تغيير النظام.


كسنة من سنن الله أيضا في المسلمين فإن السعي للتغيير واستئناف العزة والكرامة للإسلام وأهله لم تعدم ولن تعدم إلى قيام الساعة برغم ما يحدث مما هو في عكس طريقها؛ فقد كانت هناك محاولات إصلاحية في هذا العهد، وأخرى تبدي عدم موافقتها لهذا الوضع المزري في البلاد، لكنها كانت دعوات مكبوتة، لم تستطع أن ترى النور، يقول أحد الشعراء واصفا هذه الفترة


مما يزهدني في أرض أندلس ، ألقاب معتضد فيها ومعتمد


ألقاب مملكة في غير موضعها ، كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد


كان من المصلحين في هذا العهد الفقيه الإسلامي المشهور ابن حزم، وأيضا ابن عبد البر، وكذلك ابن حيان، وأبو الوليد الباجي، وغيرهم الكثير من أبناء الأندلس نفسها، والحق أنهم حاولوا قدر استطاعتهم أن يخرجوا الأمة من هذا الموقف الحرج، ويجمعوا الناس ويوحدوا الصفوف، لكن العمل الفردي لم ولن ينجح أبدا للتغيير الجذري، بل لا بد من وجود تكتل، له فكرة وطريقة معينة ليستطيع إحداث التغيير.


وكم تثور في النفس الآلام والأحزان والتساؤلات إلى هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم: أما سمعتم عن عزة الإسلام والمسلمين زمن عبد الرحمن الناصر في الدولة الإسلامية الموحدة، وكيف كانت؟! لماذا تفرطون في مثل هذه العزة في الدنيا وذاك الثواب العظيم في الآخرة؟! أمن أجل أيام معدودات على مدينة من مدن المسلمين تحكمونها؟! أم من أجل الاستكبار وعدم الرغبة في أن تكونوا تحت إمرة رجل واحد من المسلمين؟! أم من أجل التزلف والاستعباد لملك من ملوك النصارى؟!

 

نكتفي بهذا القدر، ونلتقي وإياكم الأسبوع القادم بإذنه تعالى، نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 


كتبته: أم سدين

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع