الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

  تيسير الوصول إلى طريق الرسول ص - إبتلاء حملة الدعوة ج2 - ح16  - الأستاذ أبي إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

  

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا . اللهم لا علم لنا إلا َّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

 

ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.

 

 

            إخواننا في الله, أحبتنا الكرام: مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير, أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:

 

             نلتقي بحضراتكم على أثير إذاعتنا المحبوبة, لنعيش وإياكم في أجواء السيرة النبوية العطرة, من خلال الحلقة السادسة عشرة والأخيرة من سلسلة حلقات تيسير الوصول, إلى سبيل الرسول صلى الله عليه و سلم في حمل الدعوة وإقامة الدولة, وتبليغ رسالة الإسلام للناس كافة. داعيا المولى تبارك وتعالى, أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم, وأن يتقبله منا, وأن يعمَّ نفعه على كل من سمعه في كل أقطار الدنيا, إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.

 

            أحبتنا الكرام: توقفنا في الحلقة السابقة مع نهاية الإيقاع الأول والذي تحدثنا فيه عن عن الإيمان, والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء.

 

وفي هذه الحلقة نتابع معكم باقي هذه الإيقاعات:

 

          الإيقاع الثاني: وأمَّا الذين يفتنون المؤمنين, ويعملون السيئات فما هم بمفلتين من عذاب الله, ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش, وبدا عليه الانتصار والفلاح, وَعْدُ الله كذلك وسنته في نهاية الظالمين. فلا يحسبنَّ مفسد أنـَّه مفلت ولا سابق, ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه, وفسد تقديره, واختلَّ تصوره, فإنَّ الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن, ويميز بين الصادقين والكاذبين, هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد, قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4)}العنكبوت (3/4).

 

           الإيقاع الثالث: أما الإيقاع الثالث فيتمثل في طمأنة الذين يرجون لقاء الله, ووصل قلوبهم به في ثقة ويقين, فلتـقرَّ القلوبُ الرَّاجية في لقاء الله, ولـتطمئنَّ, ولـتنـتـظرْ ما وعدها اللهُ إيَّاه انـتظار الواثـق المُستـيقـن ولتـتـطلع إلى اللقاء يوم الدِّين في شوق, ولكنْ في يقين.

 

والتعبيرُ يصوِّر هذه القـلوب المُتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية, صورة الرَّاجي المُشتاق الموصول بما هناك, ويجيب على التـَّطلع بالتوكيد المُريح, ويعقب عليه بالطمأنينة النديَّة يدخلها على تلك القلوب, فإنَّ الله يسمع لها ويعلم تطلعها. قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }العنكبوت5

 

          أما الإيقاع الرابع: فيواجه القلوب التي تحـتمل تكاليف الإيمان ومشاقِّ الجهاد, بأنـَّها إنـَّما تجاهد لنـفسها, ولخيرها ولاستكمال  فضائلها, ولإصلاح أمرها وحياتها, وإلا َّ فما بالله من حاجةٍ إلى أحد, وإنه لغـنيٌ عن كـلِّ أحد.

 

فإذا كتب الله على الُؤمنين الفتنة وكلـفهم أن يجاهدوا أنفـسهم لتثـبت على احتمال المشاقِّ, فإنـَّما ذلك لإصلاحهم وتكميلهم وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة.

 

والجهاد يصلِح من نـفس  المجاهد وقلبـه, ويرفـع من تصوُّراته وآفاقه, ويستعلي به على الشح بالنفس والمال, ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات, وذلك كـله قـبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة, وما يعود عليها من صلاح حالها, واستقرار الحق بينـها, وغلـبة الخـير فِيها على الشـر, والصلاح على الفـساد.

 

 قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) }العنكبوت

 

فلا يقعُدنَّ أحد في وسط الطـَّريق, وقـد أمضى في الجهاد شوطا ً, يطلـبُ من الله ثمن جهاده, ويمن عليه وعلى دعوته, ويستبطئ المكافأة على ما بذله, فـإنَّ الله لا يناله من جهاده شَيء, وليس في حاجةٍ إلى جُهد بشر ضعـِيف هزيل قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }العنكبوت6.

 

 وإنـَّما هو فـضـلٌ من الله أن يعـينـه في جهاده, وأن يستخلفه في الأرض به, وَأن يأجُرَه في الآخرة بثوابه:  

 

 قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } العنكبوت

 

فليطمئنَّ المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله, من تكفير السَّيـئات, وجزاءٍ على الحسنـات, وليصبرُوا على تكاليف الجهاد, وليثـبُـتـوا على الفتـنة والابتلاء, فالأمَـلُ المُشرقُ والجزاءُ الطـيِّبُ ينتـظرهم في نهاية المطاف, وإنـَّه لحَسْبُ المؤمن لـو فاته في الحياة الانتصاف.

 

ثـمَّ يجيء إلى لـون من ألوان الفِتنة أشـرنا إليه في مالحلقة السابقة فـتنة الأهـل والأحبَّاء فيفصل في الموقف الدَّقيـق بالقول الحازم

 

قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  (8)} العنكبوت

 

إنَّ الوَالدين لأقـرَبُ الأقربين, وإنَّ لهُما لفضْلا ً, وإنَّ لهُما لرحِمًا, وإنَّ لهُما لواجبـًا مفرُوضًا, واجبَ الحُبِّ والكرامة, والاحترام  والكفالة, ولكنْ ليس لهما من طاعة في حقِّ الله, وهذا هو الصِّراط

 

قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا.... (8)}

 

          أحبتنا الكرام, مستمعينا الأعزاء: إنَّ الصِّـلة في الله هي الصِّـلة الأَولـَى, والرَّابطة في الله هي العروة الوثـقى, فإنْ كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والرِّعاية لا الطـَّاعة ولا الاتـِّـباع, وَإنْ هي إلا َّ الحياة الدنيا ثمَّ يعود الجميع إلى الله.

 

           قال تعالى: {.......إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  (8)}

 

ويفصلُ ما بين المؤمنين والمُشركين, فإذا المُؤمنـُون أهـْـلٌ ورفاقٌ, ولو لـم يَعقـِدْ بينهم نـسبٌ ولا صِهرٌ.

 

            قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}العنكبوت9

 

وهكذا يَعُودُ الموصُولون بالله جماعة ٌ واحدة ٌ كما هم في الحقـِيقة, وتذهب روابط ُ الدَّم  والقرابة والنـَّسب والصهر وَتـنتهي بانتهاء الحياة الدنيا , فهي روابـِط ُ عارضـة ٌ لا أصيلة لانقطاعها عن العُروة الوُثـقى التي لا انفصام لها!

 

روى الترمذيُّ عند تفسير هذه الآية: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا.... (8)) أنـَّها نزلت في سعد بن أبي وَقــَّاص رضي الله عنه وَأمِّه حِمْـنة بنت أبي سُـفيان, وكان بارَّا ً بأمِّه, فقالت له: ما هذا الدِّينُ الذي أحدثت؟ واللهِ لا آكلُ, ولا أشرَبُ حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فـتعـيَّر بذلك أبدَ الدَّهر يُقال: يا قـاتلَ أمِّه! ثمَّ إنـَّها مكثـت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب, فجاء سعـدٌ إليها وقال:{ يا أمَّاه, لو كانت لك مئة ُ نفس ٍ فخرجت نفسًا نفسًا ما تركتُ ديني فكلي إن شِئت, وإنْ شِئـت لا تأكلي}!

 

فلمَّا أيـِست منه أكـلـت وشربت, فأنزل الله هذه الآية آمـِرًا بالبـِرِّ بالوالدين والإحسان إليهما, وعدم طاعتهما في الشِّرك.

 

 قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا.... (8)}

 

وهكـذا انتصرَ الإيمَانُ على فتنة القرابة والرَّحم, واستـُبقي الإحسانُ والبـِّرُ, وإنَّ المُؤمن لعُرضة ٌ لمثـل هذه الفتنة في كلِّ آن. فليكـُنْ بيانُ الله, وفعـلُ سعدٍ هُما راية النـَّجاة والأمان!

 

           إخواننا في الله, أحبتنا الكرام: يرسم القرآن صُورة كاملة ً لنموذج ٍ من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء, ثمَّ الادِّعاء العريض عند الرَّخاء,  يرسمها في كلماتٍ معدودات صورة واضحة  الملامح بارزة السِّمات،

 

         قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)  وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}العنكبوت

 

        ذلكَ النـَّمُوذجُ من النـَّاس, يُعْـلِـنُ كلمة  الإيمَان فِي الرَّخـَاء يَحْسَبُها خفيفـة الحمل, هيـِّـنة المؤونة, لا تكلـِّـفُ إلا َّ نـُطقها باللسان, فإذا أوذي في الله بسبب الكلمة التي قالها وَهو آمِنٌ مُعافىً, جعل فـتـنة النـَّاس كعذاب الله فاستقبلها في جزع! واختـلـَّت في نفسه القـيم!  واهـتزَّت في ضمِيره العـقيدة! وَتصـوَّر أنْ لا عذابَ بعد هذا الأذى الذي يلقاهُ! حتى عَذابَ الله!

 

وقال في نفسه: هاهو ذا عذابٌ شديدٌ أليمٌ ليس وراءهُ شيءٌ! فعلامَ أصبرُ على الإيمَان, وَعَذابُ الله لا يزيدُ على ما أنا فيه من عَذابٍ؟ وَإنْ هو إلا َّ الخلـْط ُ بين أذىً يقدرُ على مثله البشر, وَعَذابِ الله الذي لا يعْرفُ أحَـدٌ مداه!

 

هذا موقِفُ ذلك النـَّمُوذج من النـَّاس في استقبال الفِتنة في ساعةِ الشدَّة. وذلك كان موقفهم في ساعةِ العُسرة من التـَّخاذل! والتـَّهافتِ وَالتـَّهَاوي! وَسُوء التـَّصوُّر! وخطأ التـَّـقدِير. وَلكنْ حين يَجيءُ الرَّخاءُ, تنبثُّ الدَّعوى العريضة, وينتفش المنزوُون المتخاذلون, ويستأسِدُ الضُّعفاءُ المهزُومُون فيقـولون: {......إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ..... }العنكبوت10  وَيُجيبُ الحَقُّ سُبحَانـَهُ وَتعَالى: {..... أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) }

 

 أوليس يعلمُ ما تنطـوي عليه الصدُور من صبـر ٍ أو جزع, ومن إيمان أو نفاق؟ فـمن الذي يخدعُه هَؤلاء؟ وَعَـلى مَنْ يُمَوِّهُونَ ؟ 

 

 قال تعالى:  { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}

 

وَليكـشـِفنـَّهُم فـيُعرفون! فمَا كانت الفتنة ُ إلا َّ ليتبيـَّن الذين آمَـنـُوا! ويتبيـَّن المُنافقون!

 

        أحبتنا الكرام: وهنا نقفُ لحظة أمام التعبير القرآني الدَّقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من النـَّاس حين يقول: {.... جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن....}العنكبوت10

فـليست الغلطة أنَّ صبرهم قـد ضعف عن احتمال العذاب!!

 

فمِثـلُ هَذا يقـعُ لِلمُؤمنين الصَّادقين في بعض اللـَّحظات ـ وللطـَّاقة البشريَّة حدود ـ ولكنـَّهم يظلون يُـفرِّقون  تفرقة واضحة في تصوُّرهم وشعورهم, بين كلِّ ما يملكه البشر من أذىً وتـنكيل, وبين عذاب الله العظيم , فلا يختـلط  في حسِّهم أبـدًا  عالم الفناء الصَّغير, وعالم الخلود الكـبير! حتى في اللـَّحظة التي يتجاوز عذاب  النـَّاس  لهم مدى  الطـَّاقة والاحتمال!

 

إنَّ الله في حِسِّ المؤمن لا يقوم لـه شيءٌ مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله.  وهذا هو مفرقُ الطـَّريق بين الإيمان في القـلوب والنـِّـفاق!

 

 

وأخيرًا يعرضُ فتنة الإغـواء  والإغراء, ويعرضُ معها فـساد تـصوُّر الذين كفـروا للتــَّـبعة والجزاء, ويقـرَّرُ فرديـَّة  التــَّـبعة, وشخصيَّة الجزاء, وهو المبدأ الإسلاميُّ الكبيرُ الذي يُحقـِّـقُ العدل في أجلى مظاهره, وأفـضل أوْضاعه،

 

      قال تعالى:   {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(13) }العنكبوت

 

وقـد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشـِّـيًا مع تصوُّرهم القـبليِّ في احتمال  العشـيرة للـدِّيات المشتركة والتبعات المشتـركة, يحسبون أنـَّهم قادرون على احتمال جريرة الشـِّرك بالله عن سواهم, وإعفائهم منها! يقولون ذلك للتهكم على قصَّة الجزاء في الآخرة إطلاقـًا ، قال تعالى: {... اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ....(13) }

 

 

ومن ثمَّ يرد عليهـم الردَّ الحاسم! فـيُـرد كل إنسان إلى ربـِّه فردًا, يؤاخذه بعمله, ولا يحمل أحدٌ عنه شيئـًا،: { ...وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ....) }   ويُجيبُهم بما في قولـتهم هذه من كذب وادِّعاء: {..... إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(12)} ويحمِّلهم وزر ضلالهم وشـركهم وافترائهم, ووزر إضلالهم للآخرين دون أن يُعفي هؤلاء من تبعة الضَّلال: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(13) }العنكبوت

 

ويُغلقُ هذا البَابُ من أبواب الفتنة, فيعلم النـَّاسُ أنَّ الله لا يحاسبهم جماعاتٍ, إنـَّما يحاسبُهم أفـرادًا! وأنَّ كلَّ امرئ بما كسب رهِين!

 

           إخواننا في الله: إنَّ حامل الدَّعوة لا يملك إلا َّ أنْ يكون مُخلصًا! متوكلا ً على الله! واثقـًا بنصر الله! صادقا ً مع نفسه! صابرا ً مُحتسبًا! يُعطي بلا حدود! الدنيا في عينيه جسرُ العبُور إلى الجنـَّة!

 

هذا الجـسرُ مزرُوع ٌ بالأشواك! مرصودٌ بالوحُوش الضَّارية! نعيمُه سِـنة! ولذته لحظة! وعزّه سراب! وقصورُهُ تـبابٌ! الاستراحة ُ عليه مَهلكة ٌ! والإعجابُ به اضطرابٌ! ومُـقارَنته بما بعدهُ ضَربٌ من الجُنون!

 

وإنَّ الدِّرع الواقي من ذلك كلـِّه استعجالٌ بالتـَّوبة, ويقين على الله, وزهد في الموجود, وثقـة  وعمل للموعود, عجلة إلى الخير, إقبالٌ على الهُدى, صَبرٌ ومصابرة على حمل الدَّعوة, مع التـَّمسك بحبل الله, وانتظار وعد الله, الذي لا يُخلف!

 

قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}العنكبوت5

 

وإنَّ هذا الطـِّراز الخاصَّ من البشر الذي أرادت السنـَّة الإلهيَّة أن ينبت في حقـل من الشِّدة والبلاء, وجد في كلِّ عَصْر, ولا يخلو عصر من العُصُور من هذا الطـِّراز الرَّاقي من البشر! ولـو استعرضنا تاريخ البشريَّة؛ لوجدناهُ ماثلا ً كالطـَّود الشـَّامخ, يصْرُخُ بصوته المزمجر في وجه أهل الباطل  ودُعاة الضَّلال! ولولا أنْ يطولَ بنا المُـقامُ لاستعرضـنا من كلِّ عصر ٍ طِرازهُ الخـَّاصُّ الذي خرَّجته مدرسة الابتلاء  وجامعة الشدائد!

 

ولكنـَّـنا سنعرضُ نموذجًا من هذا الطـِّراز موجودًا بينـنا, يَعيشُ في زمانِنا هذا الذي يزعم الكثيرون أنـَّه زمنُ انعدام ذلك الطـِّراز الرَّاقي من الدُّعاة, الذي يصبر على الشدة والبلاء من أجل هذا الدَّين العظـِيم!

 

ففي تـركيـَّا سطـَّر الشـَّبابُ آية ً رائعة ً في الصَّبر على البلاء والمحن في سبيل الدَّعوة إلى الحقِّ والهُدى, نستـعرضُها لتكون حافزًا لنا على دعوتنا, ولتكون مِلـْحًا في العيـون التي تأبى أنْ ترى الحقَّ, وتتعامى عن عطاء  المخلصين!

 

لقد قامت السُّلطاتُ التـُّركـيَّة بملاحقة أحد الشـَّباب المسؤولين في حزب التـَّحرير,  واستمرت الملاحقة مدةً طويلة إلى أن ألقي القبض عليه،  وهناك تعرَّض لعذاب شديدٍ, قلـَّما يتحمَّـله بشر, وما ذلك إلا َّ ليعرفوا منه أسماء الشـَّباب الآخرين أو أيـَّة معلوماتٍ أخرى حول الحزب, لكنه ـ رحمهُ اللهُ حَيـَّـًا وميـِّـتـًا ـ لم يـقـل  لهم إلا َّ ما يغيظهم, وكان كلـَّما زادُوا عليه شدَّة  التعذيب, يزيدُ السُّخرية والاستهزاء بهم, حتى يئسُوا من تعذيبـه الذي كان يستمرُّ ما يقارب الثــَّماني عشـْرة ساعة ً في اليوم الواحد, دون أن يحصلوا منه على أيَّة معلومة تفـِيدهم!

 

وبعد أيَّام من التعذيب والسَّجن الإنفراديِّ جمعوه مع إخوانه في غرفة واحدة, وعلى الرَّغـم من أنَّ هذا المسؤول كان مُنهَكـًا إلا َّ أنـَّه التفـت إلى الشـَّباب, ودار بينـهم حوارٌ رُوحانيٌ أودّ أن أذكـر لـكـُم مُـقتطفاتٍ مما قاله هذا الشاب  لإخوانه في السجن:

 

 

فقد قال لهم:  أيها الشباب:

 

 لقد قسَّم الله تعالى النـَّاس في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقـسام, فـقرَّب منه عزَّ وجلَّ من وصفهم بـقوله  {السَّابِقُون}. ووعدهم بجنـَّات النـَّعيم حَيث قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)  أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) في جَنَّاتِ النَّعِيمِ }الواقعة

 

وذكر بأنَّ هؤلاء عددهم قليل, حيث قال: ( ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ(14) } الواقعة

  

وهؤلاء القلـيلـون هم الصَّفوة من جميع  بني البشر, مُنذ أنْ خلق الله آدم إلى يومنا هذا, وكان جُـلُّ صحابة حَبيـبـِنـَا مُحَمَّدٍ عليه أفضـلُ الصَّلاة وأتـمُّ التـَّسليم, من هؤلاء الصَّفوة القلـيلين بإذن الله, حيث لاقوا عذابـًا شديدًا, فصَبَرُوا , وَلـَمْ يبق من هؤلاء الصَّفوة القليلين سوى أقلـِّهم في أيـَّامنا هذه.

 

       فكـونوا أيُّها الشـَّبابُ من هؤلاء أقـلِّ القليلين عددا من صفوة النـَّاس, ولا ترضوا بأقلَّ من ذلك!

 

والسَّبيل إلى ذلك إنـَّما يكون من خلال  ثـباتكم اليوم أمام هؤلاء الأوغاد المحقـِّـقـين, وغدًا أمام القـضاة والحكـَّام الذين باعوا ضمائرهم إنْ وُجـدتْ للشـَّيطان!

 

ولـتعلموا أنَّ هذا اليوم هو يومكم كي تفوزوا بهذا المقام عند الله! ألا ترون أنَّ الله أكرمكم بأنْ وهبكم فرصة الانضمام لفئة السَّابقين؟!  

 

ليـنظـرْ كلُّ واحدٍ منـَّا إلى حياته التي يعيشها, هل تـمُرُّ عليه فرصة مثـل هذه الفرصة التي نعيشـها الآن؟! صبرٌ على الأذى قلـيل, وبعده أجر عند الله عظيم! والله يا شبابُ, لنكوننَّ من هؤلاء الصَّـفوة الأخيار الذين وصفهم الله : {السَّابِقُون}. إن نحن ثـبتـنا على مبدئنا! والله يا إخوتي, إنـَّـني أحِسُّ بأنَّ الله يُحـبُّـنا فابتلانا, وأنـَّه يُريدُ أنْ يصطفي إليه الصَّابرين منـَّا والثابتين على الحقِّ!

 

 

         أيها الشباب: اعرفوا قِيمة الحزب الذي تعملـون معه, فانظروا إلى الدنيا بأسرها, إنكم سوف تـجدون أنَّ الكفـَّار قد طغى علـيهم المبدأ الرَّأسماليُّ بكلِّ وحـشيته, والظلم قـد استشرى في الأرض, نتيجة تطبيق هذا المبدأ العفـن!

 

 

والمسلمون منقسمُون إلى فئتين:

 

فئة كبيرة منهم لا يعملون في الدَّعوة إلى الإسلام, وإنَّ جلـَّهم لا يدركون أنَّ الدِّيمـقراطيَّة  والرأسمالـيَّة العـفـنـتين هما سبب شقاء النـَّاس, بل إنَّ منهم من يدافعون عن الرأسمالـيَّة والدِّيمقراطيَّة على أنـَّهما من الإسلام!

 

وفئة أخرى وهم القلـيلون نسبيَّـًا يعملون في حقـل الدَّعوة إلى الإسـلام, ثمَّ انـظروا إلـى حِزبـِكـُـمْ هَـذا بَيـن هؤلاء العاملين, واحمدوا ربـَّـكم أنـَّـكم تمتلكون التـَّصوُّر الأوضح لحقيقة الإسلام, ولواقع الدَّولة الإسلاميَّة, بل لواقع الطـَّريقة الصَّحيحة لكيفـِيـَّة حمل الدَّعوة!

 

أليس هذا وحدهُ نعمة ً من الله منـَّها عليكم؟ فلا تجحدوا هذه النـِّعمة, ولا تهنوا أمام هؤلاء  الأوغـاد, بل حاولوا أن تجعلوهم يحترمونكم, ويحترمون حزبكم!

 

ولأجل هذا ما عليكم سوى التـَّمسُّـك بكونكم أعضاء في هذا الحزب العظيم, وأن تدعوهم هم أنفـسهم للعمل مع هذا الحزب, اغلبوهم وانـتـصروا عليهم, ولا تدعوهم ينالون من دينكم أو من حزبكم, فأنتم قليلون, وصفوة الله قليلون!

 

          أيها الشباب: لا أبالغُ إنْ قـلت بأنـَّه قد يكون قلـِيلا ً علينا إنْ نحن ضحَّينا بأرواحنا التي بين جوانبنا في سبيل هذه الدَّعوة, وفي سبيل أنْ نكون من الصَّـفوة الأخيار, الذين رضي الله عنهم, فنحن الآن لا نملك ما نـضحِّي به سوى هذه الرُّوح, فغيظوا هؤلاء الظـَّالمين, يرْحمْكم الله!

 

وقد يتراءى لكم أنَّ عدد الكفـَّار كبير, وأنَّ هؤلاء الزَّبانية وهم أعـوانُ الظـَّالمين أقـوى منكـم, ولكن لا تنسوا أبـدًا أنـَّـنـا نملك عقيـدة ً هي وحدها العقيـدة الصَّحيحة في الكون! 

 

بموجب هذا فإنـَّـنا نـُؤمنُ بأنَّ لنا رَبـَّــًا ناظرًا  إلينا الآن, في كـلِّ آن, ونحن نعتقد بأنـَّه هو القادر على كـلِّ شيء, ونعتقد بشكل جازم أنـَّه هو الذي اختار لـنا هذا الطـَّريق, وبعلمه وبرضاه سبحانه دخلـنا هذا المكان! أفـلا ترضون ما رضِيه واختاره لكم ربُّـكـم؟!

 

فـنحنُ نملك عقيدة ً قويَّة ً مبنيَّة على الإيمان بالله, والله أقـوى منهم جميعـًا! وهو الذي يَعلمُ حالـنا فـنحنُ بهذا الإيمان أقوى منهم جميعًا! وإلا َّ فما هي قـِيمَة الحياة لولا هذا الإيمان؟!  فـاثبتـوا يرحمْكم الله.

 

كان هذا مما قاله هذا الشاب لإخوانه في السجن قرأته لكم من مجلة الوعي العدد (198)

 

            إخواننا في الله, أحبتنا الكرام: هذي هي سبيل الرَّسول صلى الله عليه و سلم  في حمل الدَّعوة وإقامة الدَّولة وتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافـَّة، عرضتها على مسامعكم فيما أعلم، وإنني إذ قدِّمت هذا الجُهد المتواضع لأرجُو أنْ أكون قد وُفـِّـقـت فيه, وأن يَعُمَّ نفعه المسلمين أجمعين, فإن أصبت وتـمَّ  لي ذلك, فهو مِنـَّـة ٌ من الله أحمده عليها حمـدًا يليقُ  بجلاله وكماله! أحمده سبحانه وتعالى بما هو لـه أهـل مِن الحمد والثــَّـناء! حمدًا يُوافي نعمهُ, ويُـكافِئُ مزيده!

وإن قـصَّرت أو أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان, ألتمس له المعذرة من إخواني المستمعين, وأطلب من الله الصَّـفح والغـفران, سائلا ً المولى جـلَّ في علاه أن ينفعنا بما علـَّمنا, وأنْ يُعلـِّمنا ما ينفعنا,  وأن يزيدنا علـمـًا نافِعـًا, وأن يجعل عملنا هذا, وسائر أعمالنا خالصة ً لوجهه الكريم, وأنْ  يرينا الحقَّ حقـَّــًا ويرزقـنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلا ً ويرزقـنا اجتنابه.

وأسأله سبحانـه أن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يكتبـنا من عباده الصَّالحين المقبولين, وأن يقرَّ أعيننا قريبًا بقيام  دولة الخلافة, إنـَّه سبحانه وليُّ ذلك والقادرُ عليه, وهو وحده الهادي إلى سواء السَّبيل.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأستاذ أبي إبراهيم

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع