ثورات شرعية أم فتن مُضلّة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما نسمع هذه الأيام من منتقدي الثورات في العالم الإسلامي حديثاً عن وصف ما يجري بأنه فتنة، ويحاول بعض المنتقدين إلباس دعواهم لبوساً شرعيا ليضفي عليها نوعاً من القدسية أو الموضوعية لتجد آذاناً صاغية عند بعض الناس، فيما يرى الأعم الأغلب من الناس أنّ ما يجري هو ثورات على الظلم والفساد للتخلص من جور واستبداد الحكام الطواغيت.
وحتى نكون منصفين في نظرتنا لكِلا الطرفين لا بد من محاكمة الرأيين بميزان العدل الذي لا يزيغ عن الحق، ألا وهو ميزان الشرع الحنيف، وكذلك لا بد من إدراك الواقع السياسي الذي أفرز هذه الآراء حتى يكون حُكمنا شرعياً مستنداً إلى فهم الواقع فهماً دقيقاً، فلا نغترّ بقول هؤلاء ولا نميل مشاعرياً تعاطفاً مع هؤلاء، لأن المؤمن كما قال عليه السلام «كيّسٌ فَطِن» فلا ينخدع بالشعارات البراقة، ولا ينساق وراء بدع المضلّين.
إنّ الذين وصفوا هذه الثورات بأنها فتن كانوا صنفين من الناس: الصنف الأول هم علماء السلاطين الذين يدافعون عن الحكام يفصّلون لهم الفتاوى المشبوهة للحفاظ على كراسيهم وبقائهم جاثمين على صدور الناس، يتبعهم في ذلك أبواق الأنظمة القمعية من إعلاميين وصحفيين وكتّاب وسياسيين ومن لفَّ لفّهم من المنتفعين من وجود هذه الأنظمة، والصنف الثاني هم بعض المخلصين من العلماء الذين رأوا أنّ اقتتال المسلمين فتنة يجب إيقافها أو الابتعاد عنها حقناً لدماء المسلمين، يتبعهم في ذلك بعض المخلصين من المسلمين الذي لا يحبّون أن يروا دماء المسلمين تُراق، وخاصّة على أيدي إخوانهم من المسلمين.
وقد استند القائلون بالرأي الثاني على أحاديث الفتن التي وردت في كتب الصّحاح، ومنها قوله عليه السلام: «تكون فتنٌ، النائمُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الراكب، والراكبُ فيها خيرٌ من المُجْري، قتلاها كلُّها في النار...» (رواه أحمد)، وقال عليه السلام «ستكون فتنُ غِلاظٌ شِدادٌ، خيرُ النّاسِ فيها مُسْلِموا أهلُ البَوادي، الذين لا يتَنَدّون من دماء الناس ولا أموالهم» (رواه الطبراني) وكذلك قوله عليه السلام: «إن بَيْنَ يَدي السّاعَة فِتناً كقِطَعِ الليل المُظْلِم، فتنٌ كقطَعِ الدّخَان، يموتُ فيها قلبُ الرجُل كما يموت بَدَنُه، يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبحُ كافراً، يبيعُ أقوامٌ خَلاقُهم ودينهم بعرضٍ من الدنيا» (رواه أحمد).
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة حالة الفتنة التي يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها وهي حالات كما قال الفقهاء: منها اقتتال طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحد منهما، وعدم ظهور المُحقّ من المُبطِل في القتال، وهذه لا يجوز الإشتراك فيها كما قال الإمام أبو حنيفة: (إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي للرجل أن يعتزل الفتنة ويلتزم بيته)، وقال الشوكاني: (هي القتال لطلب المُلك) أي صراع غير مشروع على السلطة، أما إذا كانت الدولة طرفاً في النزاع وكانت الرئاسة فيها سلطة شرعية، وجب نُصرة صاحب السلطة كما ورد عن الإمام مالك قوله: (إذا خرج خارج على الإمام العدل- مثل عمر بن عبد العزيز -، وجب الدفع عنه، فأما غيره فَدَعْه، ينتقم الله من ظالم بِمثلِه) (أحكام القرآن).
مما سبق نتبيّن أن الإشتراك في الفتنة الواقعة بين طائفتين ظالمتين من المسلمين يَحْرُم شرعاً ولا يجوز المشاركة فيه لتضافر الأدلة على ذلك وإجماع علماء الأمة على حُرمة المشاركة فيه، قال عليه السلام: «إذا رأيتَ النّاسَ يقتتلون على الدّنيا، فاغمد بسيفكَ على أعظمِ صخرةٍ في الحَرّة، فاضرب بها حتّى يتكسّر، ثم اجلس في بيتِك» (رواه الطبري)، ولكن واقع الثورات التي تدور في العالم الإسلامي اليوم، لا علاقة لها بموضوع الفتنة، فهي ليست قتال بين طائفتين ظالمتين من المسلمين على أمر من أمور الدنيا، ولا هي قيام على حاكم شرعي أخذ بيعته من الأمة حتى يوصف المطالبون بالإصلاح أنّهم «بُغَاة»، بل إن واقع هذه الثورات لا يتعدّى خروج الناس للمطالبة بأدنى حقوقهم الشرعية من تحقيق العدل ورفع الظلم عنهم، ومحاسبة المجرمين الفاسدين. وقد أوصلت وحشية الأنظمة هذه الثورات إلى المطالبة برحيل هذا النظام المجرم أو ذاك القمعي عندما أوغلت بدماء المسلمين العزّل.
إذا فما هو واقع هذه الثورات في الفقه الإسلامي؟ وهل يجوز خروج الناس للمطالبة بحقوقهم الشرعية، بل هل يجوز حتى قتال تلك الأنظمة المستبدّة ورفع السلاح في وجهها إذا لزم الأمر؟ وهل يأخذ أولئك الخارجون على النظام حكم «البُغَاة» ؟ وغيرها من التساؤلات الشرعية التي تحتاج إلى الوقوف عندها.
إنّ السلطة في الإسلام للأمة، تعطيها للحاكم بموجب عقد بينها وبينه على أن يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله، قال عليه السلام: «من بايع إماماً فأعطاهُ صفقةَ يده وثمَرَةَ قلبه فلْيُطِعهُ إن استطاع» (صحيح مسلم)، وقال أيضاً: «..ولو استُعْمِلَ عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب اللهِ فاسمعوا وأطيعوا» (رواه مسلم)، وقال: «وإن أُمّر عليكم عبدٌ حبشيٌ مُجَدّع، فاسمعوا وأطيعوا ما أقام فيكم الصلاة» (صحيح مسلم). هذه الأدلة وغيرها الكثير تدلّ على وجوب طاعة الإمام المسلم الشرعي الذي يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وتُحّرم الخروج عليه، قال عليه السلام: «من خَرجَ من الإمامِ شِبراً ماتَ ميتةً جاهليّة» (صحيح البخاري)، أما واقع حكام المسلمين اليوم، فلا يوجد بينهم من تولّى أمر المسلمين بطريقة إسلامية، وليس بينهم من حكم بكتاب الله وسنة رسوله، بل جميعهم ودون استثناء، من جاء على ظهر دبابة أمريكية، أو بريطانية أو فرنسية، أو قام بانقلاب عسكري على من سبقه وجثم على صدور الناس عقوداً دون رضاهم، ومنهم من قتل أباه وجلس مكانه، ومنهم من ورث الملك غير الشرعي عن أبيه وجدّه، ومنهم من جاء بانتخابات مزوّرة بنسبة 99.9% مستخفاً بعقول الناس، أما حكمهم بالإسلام، فليس منهم من حكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إنّ أحسنهم حالاً من ادّعى في دستور الدولة، أنّ الإسلام مصدر رئيس من مصادر التشريع، ومع أنه يدّعي أنه مصدر من مصادر التشريع، إلا أنه لا يُطَبّق إلا في الطلاق والزواج والميراث على أحسن تقدير. وعلى ذلك يكون حكم هؤلاء الحكام في أحسن الأحوال أنهم «مغتصبي سلطة» يقول الدكتور محمد خير هيكل في كتاب (الجهاد والقتال في السياسة الشرعية): (لا يصبح المتغلّب خليفة بمجرّد السيطرة على السلطة، بل إذا رضي الناس وبايعوه، أصبح خليفة حينئذٍ بهذه البيعة، وإذا رفضوا بيعته، بقي حاكماً مغتصباً للسلطة....وأما المغتصب فإنه يظلّ مغتصباً مهما تقادم العهد على هذا الإغتصاب).
وعلى ذلك نسأل، هل يجوز خروج الناس في المظاهرات للمطالبة بحقوقهم الشرعية؟ وهل الثورات التي تجري في العالم الإسلامي اليوم شرعية؟ وللإجابة على هذا السؤال يذهب الدكتور محمد هيكل إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول: (يقول عليه الصلاة والسلام: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد» وجاء في مسند أحمد بن حنبل قول النبي «من قُتِل دون مظلمته فهو شهيد» واغتصاب السلطة من الأمة هو مَظْلَمَة من المظالم، ومن حقها أن تقاتل في سبيل استرجاع ما اغتُصِبَ منها، ومن يُقتل في هذا القتال فهو شهيد! ويقول عليه السلام في حقّ المغتصِب بصورة عامّة: «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه» ولفظ «ما» في الحديث يفيد العموم، فيشمل كلّ ما أُخِذَ ظُلماً واغتصاباً من مالٍ أو أرضٍ أو سلطة أو أيّ شيء. والواجب على هذه اليد المغتصبة أن تُعيد ما أخذته إلى أصحابه، وإلا فإن الإسلام قد شرع القتال في مواجهتها لردّ ما استولت عليه).
وعلى ذلك يتبيّن أن خروج الناس للمطالبة بحقوقهم من تلك الأنظمة المستبدة هو خروج شرعي، حتى ولو طالبت بسقوطها، مع أن تلك الثورات لم ترفع السلاح ابتداءً في وجه الأنظمة، بل خرجت مطالبة بحقوقها بدعاوى سلمية، ولكن أولئك المجرمين هم الذين طاردوا المسيرات بالرصاص والمدافع والقتل والتنكيل، فلا يقال أن المطالبين بحقوقهم هم من تسبب في إراقة دماء الأبرياء، وبالتالي فإن خروجهم سبب فتنة، لا يقال ذلك أبداً، لأن صاحب الحق لا يقال عنه معتدي، ولا يقال لمن يُقتَلُ برصاص المجرمين أنه سبب فتنة، بل إن القاتل هو الذي يجب أن يحاسب على إجرامه وليس المعتدى عليه الذي يطالب بحقه المسلوب، بل إن وصف المطالبين بحقهم بأنهم أهل فتنة هو وصف مضاعف الإجحاف، أولها لأنه يريد أن يحرمهم من المطالبة بحقهم ويمد في عمر الإستبداد والظلم، والثانية، أنه يصفهم بأنهم مسبّبي فتنة، وذلك غاية الظلم.
على أنّ طريقة تنصيب الحاكم المسلم وإقامة حكم الله في الأرض باستئناف الحياة الإسلامية لا تكون بحمل السلاح في وجه الأنظمة المستبدّة، ولا بالخروج للمطالبة بإسقاط الحاكم فقط، بل بالخروج للمطالبة بإسقاط النظام الفاسد الظالم واستبداله بنظام الإسلام الكامل، لا ديمقراطية ولا وطنية ولا قومية، بل نظام خلافة عادل شامل، يُنَصّب فيه الحاكم المسلم بالبيعة الشرعية التي تعطيها الأمة للإمام عن رضىً واختيار، يحفظ الأمة وتحفظه الأمة، يقيم حدود الله بالعدل، ويردّ الحقوق إلى أهلها، يعيد للأمة مكانتها بين الأمم، يسير بها وتسير معه لقيادة العالم إلى عدل ونور الإسلام الذي طالما تاقت البشرية إليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير الأستاذ أبو زيد