الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح269) الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون الواردة في آيات سورة الإسراء (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح269) الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون الواردة في آيات سورة الإسراء (1)

 


الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.


أيها المؤمنون:


السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ التَّاسِعَةِ وَالسِّتِّينَ بَعدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ أنْ يَتَحَلَّى بِهَا الإِنسَانُ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: التَّاسِعَةِ وَالثَّلاثِينَ، وَالأَربَعِينَ بَعدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:


ويقول الله تعالى في سورة الإسراء: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ:


أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ كِتَابَ «نِظَامِ الإِسْلَامِ» هَذَا الكِتَابُ الَّذِي عَرَضْنَاهُ عَلَيكُمْ عَرْضاً مُفَصَّلاً، وَقَدْ أَوْشَكْنَا عَلَى الانتِهَاءِ مِنْ عَرضِهِ، بَيَّنَ فِيهِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ الأَجِلَّاءُ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا دِينَ الإِسلَامِ غَضّاً طَرِيّاً كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ العَالَـمِينَ، ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ الكَامِلُ، والشَّامِلُ لِجَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، بِصُورَتِهِ النَّاصِعَةِ الوَاضِحَةِ، وَحَقِيقَتِهِ النَّقِيَّةِ الصَّافِيَةِ الـمُبَلْوَرَةِ.


وَفي خِتَامِ كِتَابِ «نِظَامِ الإِسْلَامِ» حَتَّى لَا تَلْتَبِسَ سَبِيلِ النَّهْضَةِ عَلَى السَّائِرِينَ، بَحَثَ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ مَوضُوعاً في غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ، أَلَا وَهُوَ «الأَخلَاق فِي الإِسلَامِ» وَلِكَيْ يَسْهُلَ تَنَاوُلَنَا لَهْ ارْتأَينَا تَجزِئَتَهُ لِعِدَّةِ أَجْزَاءَ، وَإِلَيكُمُ الجُزْءَ السَّادِسَ مِنهُ.


بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ الكَرِيمِ الأَخلَاقَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الـمُؤْمِنُونَ، وَيُمكِنُ بَيَانُ وَإِبرَازُ مَا كَتَبَهُ الأُستَاذُ سَيِّد قُطْب - رَحِمَهُ اللهُ - «فِي ظِلَالِ القُرآنِ» حَولَ آيَاتِ سُورَةِ الإِسْرَاءِ مِنْ خِلَالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:


1. قَولُ اللهِ تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) هُوَ أَمْرٌ بِتَوحِيدِ الـمَعبُودِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ. أَمْرٌ فِي صُورَةِ قَضَاءٍ. فَهُوَ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ حَتْمِيَّةَ القَضَاءِ. وَلَفْظَةُ (قَضَى) تَخْلَعُ عَلَى الأَمْرِ مَعْنَى التَّوكِيدِ، إِلَى جَانِبِ القَصْرِ الَّذِي يُفِيدُهُ النَّفْيُ وَالاستِثْنَاءُ (أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فَتَبدُو فِي جَوِّ التَّعبِيرِ ظِلَالُ التَّوكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ.


2. فَإِذَا وُضِعَتِ القَاعِدَةُ، وَأُقِيمَ الأَسَاسُ، جَاءَتِ التَّكَالِيفُ الفَردِيَّةُ وَالاجتِمَاعِيَّةُ، وَلَـهَا فِي النَّفْسِ رَكِيزَةٌ مِنَ العَقِيدَةِ فِي اللهِ الوَاحِدِ، تُوَحِّدُ البَوَاعِثَ وَالأَهْدَافَ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالأَعْمَالِ. وَالرَّابِطَةُ الأُولَى بَعْدَ رَابِطَةِ العَقِيدَةِ، هِيَ رَابِطَةُ الأُسْرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ يَربِطُ السِّيَاقُ بِرَّ الوَالِدَينِ بِعِبَادَةِ اللهِ، إِعْلَاناً لِقِيمَةِ هَذَا البِّرِّ عِندَ اللهِ.


3. قَولُهُ تَعَالَى: (وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَـهُمَا: أُفٍّ وَلَا تَنهَرهُمَا وَقُلْ لَـهُمَا قَولاً كَريماً، وَاخْفِضْ لَـهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً). بِهَذِهِ العِبَارَاتِ النَّدِيَّةِ، وَالصُّوَرِ الـمُوحِيَةِ، يَستَجِيشُ القُرآنُ الكَرِيمُ وُجْدَانَ البِرِّ وَالرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الأَبْنَاءِ. ذَلِكَ أَنَّ الحَيَاةَ وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ فِي طَرِيقِهَا بِالأَحْيَاءِ، تُوَجِّهُ اهتِمَامَهُمُ القَوِيَّ إِلَى الأَمَامِ. إِلَى الذُّرِّيَّةِ. إِلَى النَّاشِئَةِ الجَدِيدَةِ. إِلَى الجِيلِ الـمُقْبِلِ. وَقَلَّمَا تُوَجِّهُ اهتِمَامَهُمْ إِلَى الوَرَاءِ. إِلَى الأُبُوَّةِ. إِلَى الحَيَاةِ الـمُوَلِّيَةِ. إِلَى الجِيلِ الذَّاهِبِ! وَمِنْ ثَـمَّ تَحْتَاجُ البُنُوَّةُ إِلَى استِجَاشَةِ وُجْدَانِهَا بِقُوَّةٍ لِتَنْعَطِفَ إِلَى الخَلْفِ، وَتَتَلَفَّتَ إِلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ.


4. إِنَّ الوَالِدَينِ يَندَفِعَانِ بِالفِطْرَةِ إِلَى رِعَايَةِ الأَولَادِ. إِلَى التَّضحِيَّةِ بِكُلِّ شَيءٍ حَتَّى بِالذَّاتِ. وَكَمَا تَمتَصُّ النَّابِتَةُ الخَضْرَاءُ كُلَّ غِذَاءٍ فِي الـحَـبَّةِ فَإِذَا هِيَ فُتَاتٌ، وَيـَمتَصُّ الفَرخُ كُلَّ غِذَاءٍ فِي البَيضَةِ فَإِذَا هِيَ قِشْرٌ؛ كَذَلِكَ يَمْتَصُّ الأَولَادُ كُلَّ رَحِيقٍ، وَكُلَّ عَافِيَةٍ، وَكُلَّ جُهْدٍ، وَكُلَّ اهتِمَامٍ مِنَ الوَالِدَينِ، فَإِذَا هُمَا شَيخُوخَةٌ فَانِيَةٌ إِنْ أَمْهَلَهُمَا الأَجَلُ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ سَعِيدَانِ!

 

0552

 

5. فَأَمَّا الأَولَادُ فَسُرعَانَ مَا يَنسَونَ هَذَا كُلَّهُ، وَيَندَفِعُونَ بِدَورِهِمْ إِلَى الأَمَامِ. إِلَى الزَّوجَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَهَكَذَا تَندَفِعُ الحَيَاةُ. وَمِنْ ثَـمَّ لَا يَحْتَاجُ الآبَاءُ إِلَى تَوصِيَةٍ بِالأَبنَاءِ. إِنَّمَا يَحْتَاجُ هَؤُلَاءِ إِلَى استِجَاشَةِ وُجْدَانِـهِمْ بِقُوَّةٍ لِيَذكُرُوا وَاجِبَ الِجيلِ الَّذِي أَنْفَقَ رَحِيقَهُ كُلَّهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ الجَفَافُ!


6. وَهُنَا يَجِيءُ الأَمْرُ بِالإِحسَانِ إِلَى الوَالِدَينِ فِي صُورَةِ قَضَاءٍ مِنَ اللهِ يَحْمِلُ مَعْنَى الأَمْرِ الـمُؤَكَّدِ، بَعْدَ الأَمْرِ الـمُؤَكَّدِ بِعِبَادَةِ اللهِ. ثُمَّ يَأخُذُ السِّيَاقُ فِي تَظلِيلِ الجَوَّ كُلِّهِ بِأَرَقِ الظِّلَالِ؛ وَفِي استِجَاشَةِ الوُجْدَانِ بِذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَمَشَاعِرِ الحُبِّ وَالعَطْفِ وَالحَنَانِ.


7. قَولُهُ تَعَالَى: (إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلَاهُمَا).. وَالكِبَرُ لَهُ جَلَالُهُ، وَضَعْفُ الكِبَرِ لَهُ إِيـحَاؤُهُ؛ وَكَلِمَةُ(عِندَكَ) تُصَوِّرُ مَعْنَى الالتِجَاءِ وَالاحتِمَاءِ فِي حَالَةِ الكِبَرِ وَالضَّعْفِ.


8. قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) وَهِيَ أَوَّلُ مَرتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الرِّعَايَةِ وَالأَدَبِ أَلَّا يَنِدَّ مِنَ الوَلَدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالضِّيقِ، وَمَا يَشِي بِالإِهَانَةِ وَسُوءِ الأَدَبِ.


9. قَولُهُ تَعَالَى: (وَقُلْ لَـهُمَا قَولاً كَرِيماً) وَهِيَ مَرتَبَةٌ أَعْلَى إِيجَابِيَّةً أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ لَـهُمَا بِشَيءٍ بِالإِكرَامِ وَالاحتِرَامِ.


10. قَولُهُ تَعَالَى: (وَاخْفِضْ لَـهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وَهُنَا يَشِفُّ التَّعبِيرُ وَيَلْطُفُ، وَيَبلُغُ شِغَافَ القَلْبِ وَحَنَايَا الوُجْدَانِ. فَهِيَ الرَّحْمَةُ تَرِقُّ وَتَلطُفُ حَتَّى لَكَأَنـَّهَا الذُّلُّ الَّذِي لَا يَرفَعُ عَيناً، وَلَا يَرفُضُ أَمراً. وَكَأَنَّمَا لِلذُّلِّ جَنَاحٌ يَخفِضُهُ إِيذَاناً بِالسَّلَامِ وَالاستِسْلَامِ.


11. قَولُهُ تَعَالَى: (وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) فَهِيَ الذِّكْرَى الحَانِيَةُ. ذِكْرَى الطُّفُولَةِ الضَّعِيفَةِ يَرعَاهَا الوَالِدَانِ، وَهُمَا اليَومَ فِي مِثْلِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالحَاجَةِ إِلَى الرِّعَايَةِ وَالحَنَانِ. وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ يَرْحَمْهُمَا فَرَحْمَةُ اللهِ أَوْسَعُ، وَرِعَايَةُ اللهِ أَشْمَلُ، وَجَنَابُ اللهِ أَرْحَبُ. وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى جَزَائِهِمَا بِمَا بَذَلَا مِنْ دَمِهِمَا وَقَلبِهِمَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَزَائِهِ الأَبْنَاءُ.


12. قَالَ الحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البَزَّارُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُرَيدَةَ عَنْ أَبِيهِ: «إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِي الطَّوَافِ حَامِلاً أُمَّهُ يَطُوفُ بِـهَا فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: لَا. وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ».


13. وَلِأَنَّ الانفِعَالَاتِ وَالحَرَكَاتِ مَوصُولَةٌ بِالعَقِيدَةِ فِي السِّيَاقِ، فَإِنَّهُ يُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ بِرُجُوعِ الأَمْرِ كُلِّهِ للهِ الَّذِي يَعْلَمُ النَّوَايَا، وَيَعْلَمُ مَا وَرَاءَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ: قَالَ تَعَالَى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، إِنْ تَكُونُوا صَالِـحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورَا).وَجَاءَ هَذَا النَّصُّ قَبلَ أَنْ يَمضِيَ فِي بَقِيَّةِ التَّكَالِيفِ وَالوَاجبَاتِ وَالآدَابِ؛ لِيَرجعَ إِلَيهِ كُلُّ قَولٍ وَكُلُّ فِعْلٍ؛ وَلِيَفْتَحَ بَابَ التَّوبَةِ وَالرَّحْمَةِ لِـمَنْ يُخطِئُ أَو يُقَصِّرُ، ثُـمَّ يَرجعَ فَيَتُوبَ مِنَ الخَطَأِ وَالتَّقصِيرِ. وَمَا دَامَ القَلْبُ صَالِـحـاً، فَإِنَّ بَابَ الـمَغْفِرَةِ مَفْتُوحٌ. وَالأَوَّابُونَ هُمُ الَّذِينَ كُلَّمَا أَخطَئُوا عَادُوا إِلَى رَبِّـهِمْ مُستَغْفِرِينَ.


14. ثُمَّ يَمضِي السِّيَاقُ بَعْدَ الوَالِدَينِ إِلَى ذَوِي القُربَى أَجْمَعِينَ؛ وَيَصِلُ بِـهِمُ الـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، مُتَوَسِّعاً فِي القَرَابَاتِ حَتَّى تَشْمَلَ الرَّوَابِطَ الإِنسَانِيَّةَ بِمَعْنَاهَا الكَبِيرِ: (وَآتِ ذَا القُربَى حَقَّهُ وَالـمِسْكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبذِيراً، إِنَّ الـمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبَّهِ كَفُوراً؛ وَإِمَّا تُعرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرجُوهَا، فَقُلْ لَـهُمْ قَولاً مَيْسُوراً).


15. وَالقُرآنُ يَجْعَلُ لِذِي القُربَى وَالـمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَقّاً فِي الأَعْنَاقِ يُوَفَّى بِالإِنفَاقِ. قَالَ تَعَالَى: (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). فَلَيسَ هُوَ تَفْضِيلاً مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ؛ إِنَّمَا هُوَ الحَقُّ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ، وَوَصَلَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَوحِيدِهِ. الحَقُّ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الـمًكَلَّفُ فَيُبرِئُ ذِمَّتَهُ، وَيَصِلُ الـمَوَدَّةَ بَينَهُ وَبَينَ مَنْ يُعْطِيهِ، وَإِنْ هُوَ إِلَّا مُؤَدٍّ مَا عَلَيهِ للهِ.


16. وَيَنهَى القُرآنُ عَن ِ"التَّبذِيرِ" قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبذِيراً) وَالتَّبذِيرُ كَمَا يُفَسِّرُهُ ابنُ مَسْعُودٍ وَابنُ عَبَّاسٍ هُوَ: "الإِنْفَاقُ فِي غَيرِ حَقٍّ". وَقَالَ مُجَاهِدُ: لَو أَنْفَقَ إِنْسَانٌ مَالَهُ كُلَّهُ فِي الحَقِّ لَـمْ يَكُنْ مُبَذِّراً، وَلَو أَنْفَقَ مُدّاً فِي غَيرِ حَقٍّ كَانَ مُبَذِّراً. فَلَيسَتْ هِيَ الكَثْرَةُ وَالقِلَّةُ فِي الإِنفَاقِ. إِنَّمَا هُوَ مَوضِعُ الإِنفَاقِ. وَمِنْ ثَـمَّ كَانَ الـمُبَذِّرُونَ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّهُمْ يُنفِقُونَ فِي البَاطِلِ، وَيُنفِقُونَ فِي الشَّرِّ، وَيُنفِقُونَ فِي الـمَعْصِيَةِ. فَهُمْ رُفَقَاءُ الشَّيَاطِينِ وَصِحَابُـهُمْ (وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) لَا يُؤَدِّي حَقَّ النِّعْمَةِ، كَذَلِكَ إِخْوَانُهُ الـمُبَذِّرُونَ لَا يُؤَدُّونَ حَقَّ النِّعْمَةِ، وَحَقُّهَا أَنْ يُنفِقُوهَا فِي الطَّاعَاتِ وَالحُقُوقِ، غَيرَ مُتَجَاوِزِينَ وَلَا مُبَذِّرِينَ.


17. فَإِذَا لَـمْ يَجِدْ إِنْسَانٌ مَا يُؤَدِّي بِهِ حَقَّ ذَوِي القُربَى وَالـمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَاسْتَحْيَا أَنْ يُوَاجِهَهُمْ، وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ يَرجُو أَنْ يَرْزُقَهُ وَيَرزُقَهُمْ، فَلْيَعِدُهُمْ إِلَى مَيسَرَةٍ، وَلْيَقُلْ لَـهُمْ قَولاً لَيِّناً، فَلَا يَضِقْ بِهِمْ صَدْرُهُ، وَلَا يَسْكُتْ وَيَدَعَهُمْ فَيُحِسُّوا بِالضِّيقِ فِي سُكُوتِهِ، فَفِي القَولِ الـمَيسُورِ عِوَضٌ وَأَمَلٌ وَتَجَمُّلٌ.


أيها المؤمنون:


نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع