الثلاثاء، 24 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/26م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
النظرة الإسلامية لمفهوم المواطنة كلمة حزب التحرير المقدمة إلى مؤتمر "المواطنة في العالم العربي والإسلامي: واقع وتحديات"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

النظرة الإسلامية لمفهوم المواطنة

 

كلمة حزب التحرير المقدمة إلى مؤتمر "المواطنة في العالم العربي والإسلامي: واقع وتحديات"

 

المنعقد في بيروت في 2015/12/10م

 

المهندس عثمان محمد بخاش[1]

 

مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

 

 

 

 

 

 

السادة المشاركين في المؤتمر، سنتناول فيما يلي مسألة المواطنة وما يتفرع عنها من مفاهيم.

 

1-     مرجعية البحث

 

نحن قوم أعزنا الله بالإسلام بعد أن أكرمنا بنعمة الإيمان بالخالق سبحانه، والعقيدة الإسلامية قد انبثق عنها أحكام ومفاهيم ونظم تنظّم علاقة الفرد المسلم مع نفسه ومع خالقه ومع غيره من البشر، كما تنظم حركة المجتمع الإسلامي في كيانه المجتمعي وعلاقاته في داخله كما في علاقاته مع الأمم والمجتمعات في الخارج. فالله سبحانه وتعالى يفرض على المسلمين جميعا، حكامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات، الاحتكام إلى شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وفي هذا يقول الحق سبحانه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، ويقول سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48]

 

 

إذن فعلى المسلم الرجوع إلى الشرع الذي نزل به الوحي على رسول الله محمد بن عبد الله ﷺ ، ولا يصح ولا يُقبل الاحتكام إلى غير ذلك مطلقا من أهواء البشر وعقولهم القاصرة العاجزة.

 

 

هذا الكلام فيما يتعلق بأمور التشريع من حلال وحرام وفيما يتعلق بعبادة الله سبحانه والقيام بالتكاليف الشرعية فيما افترضه سبحانه على العباد واجتناب ما حرمه الله تعالى، كما يتعلق بتسيير شؤون الفرد والمجتمع سواء فيما بين المسلمين أنفسهم أو في علاقاتهم من غير المسلمين سواء في داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه وفي كل مجالات الحياة من نواحي الاقتصاد والثقافة والفكر والسياسة بعامة.

 

 

وعلى هذا لا يُقبل ولا يصح الاستدلال بمنظومة مفاهيم وأفكار تشريعية دخيلة على المسلمين وتتناقض مع الإسلام من العقائد والحضارات الأخرى، مع التنويه هنا، باختصار، أن الإسلام يجيز الاستفادة من أشكال المدنية المادية من علوم وصناعات موجودة لدى الآخرين، فهذه لا صلة لها بالعقائد بل هي نتاج بشري لعلوم طبيعية هي عالمية بطبيعتها، فالفيزياء والكيمياء وما شاكل من العلوم والصناعات المادية ليست حكرا على أمة دون أخرى، بخلاف أمور التشريع وتنظيم علاقات الناس المعيشية فهذه تنبع من عقيدة المجتمع القائمة على مفهوم الإيمان بخالق الكون والإنسان والحياة والعبودية له، أو من عقيدة تنكر ذلك وتحدد دور الخالق في حياة الفرد والمجتمع.

 

2-     السياق التاريخي لمفهوم المواطنة

 

لعل المواجهة الفكرية بين الأمة الإسلامية والحضارة الغربية كانت، ولا تزال، أخطر المواجهات التي واجهتها الأمة. من هنا فإنّ إقصاء الإسلام عن الحياة، وتدجين المسلمين في بوتقة نظم وقوانين ومفاهيم غير إسلامية، لم يكن ليتم بيسر وسهولة، وإنما تطلّب جهودًا حثيثة، استغرقت عقوداً من الزمن، وعلى عدة أصعدة: ثقافية وفكرية وسياسية وعسكرية واقتصادية... وقد عملت الدول الغربية على الترويج في أوساط المسلمين، وخاصة النخبة المثقفة منهم، لمقولات ومفاهيم الفكر السياسي الغربي القائم على مفهوم الدولة الوطنية القائمة على النظم الوضعية. وقد دارت هذه العملية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، في بلاد المسلمين عبر مؤسسات الإرساليات والكليات والمعاهد التي زرعت في بيروت والقاهرة والاسكندرية واسطنبول وسواها، كما دارت عبر استقطاب وكسب أبناء المسلمين، والنصارى، الذين وفدوا إلى الغرب لمتابعة تحصيلهم العلمي في جامعاته ومعاهده. ونحن نجد أن الدعوة إلى الوطنية هي دعوة مستوردة، وفدت إلى بلاد المسلمين من الغرب؛ والباحث عن مفهوم "الوطنية" لا يجد له تاريخا ولا تأصيلا في الفكر الإسلامي ولا في تاريخ المسلمين.

 

3-     تحديد واقع مصطلح المواطنة

 

يقول صاحب القاموس المحيط عن المعنى اللغوي لكلمة وطن: "منزل الإقامة ومربط البقر والغنم، الجمع أوطان، ووطن به يطن وأوطن: أقام"([2]). وجاء في لسان العرب "الوَطَنُ المَنْزِلُ تقيم به وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله... والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها"([3])، والإقامة قد تكون في قرية أو مدينة وبذلك تصلح المدينة أو القرية لأن تكون وطنا. إذن فإن أوسع مدلول لكلمة وطن هو القرية أو المدينة التي يعيش فيها الإنسان، أما سائر المدن والقرى فهي كلها بالنسبة له سواء، لا فرق بين مدينة أو قرية ضمن ولايته أو إمارته أو دولته وبين أخرى تقع خارجها، فكلها سواء من حيث إنه لا يستوطنها. فالمقيم في بيروت مثلا قد يتعلق قلبه ببيروت لأنه عاش فيها واستوطنها واعتاد عليها، إلا أنه لا فرق بالنسبة له بين طرابلس الشام ودمشق أو بين صيدا والإسكندرية أو بين بعلبك وبغداد، من حيث إنها كلها مدن لا يستوطنها.([4])

 

ومع أنه "لا يوجد مصطلح مستقل في اللغة العربية يشير إلى مفهوم المواطنة"([5]) فقد قام الشيخ رفاعة الطهطاوي بطرح فكرة "الوطن" لأول مرة في التداول في العالم الإسلامي بعد أن عاش خمس سنوات في باريس (1826-1831م) عاصر فيها السجالات والطروحات الفكرية السياسية التي كانت تعصف بالمجتمع الفرنسي يومذاك، فوقع من حيث يدري أو لا يدري تحت تأثير ما عايشه من نظرة غربية حملها معه ليبشر بها في مصر إثر عودته. "فللمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا[6] الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. وللمرة الأولى نجد اهتمامًا بالتاريخ القديم يوجّه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد."([7])

 

إن المواطنة بمفهومها المعاصر تعني المساواة بين المواطنين في حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية، وهي حقوق قد أصبحت في العالم الديمقراطي حقوقًا دستورية، بمعنى أن قانون الدولة الأساسي أو دستورها يضمنها ويحميها. وهذا المفهوم المعاصر للمواطنة مفهوم علماني نشأ تاريخيا في أوروبا في معارضة مفهوم الدولة المسيحية للمواطنة.([8])

 

وفي سبيل تقوية السلطة الوطنية وجعلها محور ولاء المواطن عمدت السلطات الوطنية إلى صياغة ثقافة وطنية تقوم على بعث الأمجاد الوطنية المستمد من التاريخ الثقافي والفكري والسياسي للوطن،كما عمدت إلى صناعة "رموز" وطنية بدءًا من العلم الوطني والنشيد الوطني، إلى نصب تماثيل لشخصيات بارزة في ميادين الفكر والسياسة، وغير ذلك.([9])

 

والدولة القومية هي التنظيم السياسي للأمة القومية التي تضم جماعة تشترك في خبرة تاريخية مشتركة وتتطلع إلى العيش المشترك كوحدة مستقلة عن غيرها، بغض النظر عن شكل حكومتها أو نظامها السياسي، وتفتخر الأمة القومية بتراثها التاريخي وثقافتها القومية، وتمجّد "الأمة" وتقدّسها. يقول ساطع الحصري "إن أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ"، ولذلك "لا الدين ولا الدولة ولا الحياة الاقتصادية تدخل بين مقومات الأمة الأساسية".([10])

 

والتاريخ الحديث مليء بالصراعات والحروب الدموية التي أهلكت الحرث والنسل في سبيل المصالح الوطنية.

 

وغني عن القول إن الاستعمار الأوروبي كان وراء هدم دولة الخلافة بعد أن نجح في إثارة النعرات القومية بين المسلمين من ترك وعرب، وحرك بعض العرب الطامعين في كراسي الحكم للثورة ضد الخلافة العثمانية، ولما قضت بريطانيا وطرها من الشريف حسين الذي أعلن الثورة على الخلافة العثمانية ألقت به مهملا في المنفى، ثم عمدت إلى إشراك فرنسا في تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو في تقسيم المنطقة إلى دويلات هزيلة تقوم على فكرة "الدولة الوطنية" بما يقتضي ذلك من صناعة "هويات" مصطنعة لتبرر الخلافات وتؤجج الأحقاد والكراهية بين من كانوا حتى الأمس القريب أبناء أمة واحدة ضاربة الجذور في التاريخ. فرسم الحدود الوهمية لما سمي بالحدود كانت ولا تزال سببا دائما لتأجيج الصراع وسفك الدماء بين أبناء الأمة الواحدة، حتى إن العائلة نفسها والقبيلة الواحدة قسمت بفعل هذا التقسيم المصطنع فأصبح أفرادها "ينتمون" إلى أوطان فرضت عليهم بقوة الحديد والنار، وتحت شعار الوطنية المفروض أصبح فرضًا على السوري مقاتلة جاره الأردني أو على المصري قصف جاره الليبي وهكذا... وهكذا صارت "الأوطان" مقدسةً بينما حفنة من الحكام العابثين الذين يدينون بكراسي الحكم لأرباب نعمتهم في الدول الغربية يستبيحون البلاد والعباد التي جُعلت نهبًا لشركات الاستعمار الغربية، بينما تقوم النظم البوليسية بقمع كل دعوة شريفة تهدف إلى استعادة وحدة الأمة وعزتها وقوتها. وفوق هذا وذاك اصطنعت "جامعة الدول العربية" لتكريس هذه التجزئة بحجة حماية السيادة الزائفة للكيانات الوطنية، بينما صاحب القرار والسلطان هم قادة الاستعمار الغربي. هكذا يتبين أن مصطلح "الوطن" و"الدولة المستقلة ذات السيادة الوطنية" هي من أهم أدوات الغزو الفكري الغربي، الذي استخدم بعض النصارى وبعض أبناء المسلمين مطيةً لترويج سموم الحضارة الغربية، وإضفاء المشروعية على الأوضاع التي فرضها المستعمر، بغية الحيلولة دون عودة وحدة المسلمين تحت ظل الدولة الإسلامية الجامعة كما كان الحال منذ عهد النبوة.

 

أما الإسلام فينظر إلى الناس نظرة إنسانية فالله سبحانه خلق الناس جميعا،كما جاء في الحديث الشريف «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». ومع أن الإسلام وجه دعوة صريحة إلى جميع الناس ليعتنقوه ويؤمنوا بالله وحده وبمحمد رسولا ويسلموا أمورهم بطاعة أوامر الخالق ونواهيه، إلا أنه لم يكره أحدًا على تغيير دينه ﴿لا إكراه في الدين﴾ ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فاعتناق العقيدة فعل طوعي لا ينطلق إلا من أعماق الوجدان الشخصي والقناعة الفكرية عنده، وليس لإنسان على وجه البسيطة أن يُكره شخصا آخر على الخروج من دينه للدخول في الإسلام، بل هو إنسان كرّمه الله بصفة الإنسانية، وأعطاه القدرة على التمسك بضلاله أو اختيار الدخول في دين الله بمحض قناعته، ثم يوم القيامة يوفى كل إنسان جزاء عمله من خير وشر.

 

و"الإسلام يقر تكوين الأمة، ولكنه يحصر مكوناتها في عناصر "فكرية - عقدية"، وفي أنظمة وتشريعات عملية تنبثق من العناصر الفكرية. وبهذا يناقض المفهوم الغربي القومي للأمة، حيث تؤكد الشريعة الإسلامية أن مكونات الأمة هي العقيدة الإسلامية والمفاهيم التي ترتبط بها، من إيمان بالله ورسوله، وكذلك الأحكام الشرعية التي تنبثق عن العقيدة. ووحدة الأمة ذاتها تتمثل في إقامة الدولة التي تقيم أحكام الشرع.([11])

 

أما في الحياة الدنيا فالدولة الإسلامية ملزمة بضمان أمن وكرامة كل من يعيش في كنفها لا يضار في نفسه وولده وماله ولا يفتن عن دينه. ولسنا بحاجة للدلالة على أن الواقع المعاش في الشام وسواها في مصر وغيرها واضح في أن غير المسلمين عاشوا آمنين على أنفسهم وأديانهم حتى عهد الاستعمار الحديث الذي عمل على إيقاع الفتنة بين أهل البلد الواحد.

 

فالفهم السياسي لواقع الأمور يظهر بكل جلاء ووضوح تدخل القادة الغربيين في كل شاردة وواردة في أمور الحكم والاقتصاد سواء في مصر أو السودان أو الشام أو غيرها... ووصل الأمر بالقادة الأمريكان لأن يصرحوا بأن المنظومة التي بنيت على اتفاقية سايكس بيكو قد استنفدت أغراضها وصار لا بد من إعادة صياغة المنطقة من جديد على أساس كيانات قومية عرقية طائفية.[12] ولم تكتف أمريكا بفصل جنوب السودان عنه بل هي تعمل الآن لفصل دارفور وكردفان قبل تفتيت ما تبقى من السودان إلى خمس دويلات.

 

نعم هناك من يزعم، وهذا زعم كاذب، أن السبيل لحماية الأقليات في المشرق العربي يكون بضمان حقوق جميع "المواطنين" أمام القانون. ويدرجون في روايتهم هذه الحاجة الماسة إلى "العيش المشترك" بين المسلمين وغير المسلمين، يقبل المسلمون بموجبه بالتخلي عن أحكام دينهم التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، ويحتكمون مع النصارى إلى الأنظمة الغربية، ويتم تداول السلطة أو توزيع مناصب الدولة فيما بينهم. ويروّج الداعون إلى مفهوم المواطنة أن الحقوق الوطنية هي الضمانة للعيش المشترك.

 

 

ولكن هل لهم أن يجيبوا على السؤال: متى بدأ عيش المسلمين مع غير المسلمين عيشا ملؤه الاستقرار والطمأنينة؟ ألم يبدأ منذ فجر الإسلام؟؟ ألم يحتضن دستور المدينة المنورة (المعروف بوثيقة المدينة وهي التي وقعها رسول الله مع ممثلي القبائل القاطنة في المدينة وجوارها) غير المسلمين من مشركين ويهود وغيرهم؟ بعضهم يغمض عينيه عن حقائق التاريخ الساطعة فيزعم أن عيش المسلمين مع غيرهم بدأ بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى لبنان وسوريا ودخول الاستعمار الإنجليزي في العراق، وما هذا القول السخيف إلا كمن يريد تغطية الشمس بغربال. لا بل إن عيش المسلمين مع غير المسلمين لم يصل إلى درجة التناحر وفقدان الاستقرار والطمأنينة إلا في ظل الدول الحديثة التي تُسمى بالدول الوطنية والتي أنشأتها الدول الغربية الاستعمارية بعد هدم دولة الخلافة الإسلامية.

 

نعم نحن ندرك أن خلفية هذه الدعوة إلى الكيانات الوطنية التي صنعها الاستعمار تكمن في مطامع بعض رجال السياسة والفكر إلى لعاعة من الدنيا من منصب أو كرسي أو منفعة مادية يرميها لهم حكام الغرب، وبعضهم ينطلق من قناعة فكرية بأن العلمانية هي الحل الصحيح وأنه لا بد من بناء الأوطان على أساس فصل الدين عن الحياة، في استنساخ صارخ للتجربة الغربية في الصراع الدامي الذي دار بين سلطات الكنيسة ورجالات الحكم. وقد ذهب بعض المقلدين للفكر الغربي إلى القول إنّ "الدولة الوطنية إما أن تكون علمانية وإما لا تكون دولة وطنية، بل لا تكون دولة... فإنّ علمانية الدولة تتأسس على مبدأ الإنسان وعلى مبدأ المواطنة، وهما مبدآن حاكمان على الدولة الوطنية"([13]). وهذا ما يفضح التناقض الحقيقي في دعواهم المشبوهة: فلو أن النصارى، مثلا، طالبوا بتحكيم شريعة المسيح عليه السلام لفهمنا، ولكنهم، إذ يعلمون حق العلم أن النصرانية ليس فيها نظام للحياة، رضوا بأن يُتخذوا مطية في التطاول على الإسلام من قبل المنادين بالعلمانية لفصل الدين عن الحياة العامة، والعلمانية هي نفسها التي أدت إلى الدمار الروحي في الحضارة الغربية وانعدام القيم الروحية والأخلاقية، ثم هم يغيظهم تمسك المسلمين بدينهم، فما بالهم كيف يحكمون؟

 

نعم هذا قياس مع الفارق، فالشريعة الإسلامية تقوم على الوحي الرباني المبرَّأ عن الهوى وعن العقول البشرية القاصرة العاجزة. والحاكم والمحكوم يخضعان لحكم الشرع وليس لرغبات بشر يرون في غدهم خلاف ما قرروه بأمسهم، حتى وصل الأمر بهم إلى تزويج الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة تحت قبة الكنيسة، والدعوة إلى إباحة الماريجوانا وغير ذلك من الموبقات.

 

أما محاولة بعضهم تلخيص الإسلام في الممارسات الفجة لتنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، فليس هذا التنظيم ولا غيره من التنظيمات حجة على الإسلام الذي يقوم على الوحي الرباني، وممارسة المسلمين لجريمة الربا حتى في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة لا يجعل الربا حلالا بل هي حرام بنص الشرع المؤبد إلى يوم الدين، والشرع هو الحجة على البشر وليس العكس. لا بل إننا نرى أن فزاعة تنظيم الدولة اختلقها الغرب لهذا الغرض بعينه: تشويه الإسلام لإيجاد رأي عام ضده وضد الداعين إلى استئناف الحياة الإسلامية، والواقع يكشف نفاق الغرب وأجهزته الإعلامية التي تغض الطرف عن إجرام الدول البوليسية وأولها نظام بشار الأسد، وهذا التحالف الدولي الذي يشمل 62 دولة هو ضد الإسلام لا غير، وما تنظيم الدولة إلا فزاعة وشماعة يتلطون وراءها.

 


[1] عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

([2]) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ج 3، ص372.

([3]) ابن منظور، لسان العرب، ج 13، ص451.

([4]) القصص، أحمد، حكم الإسلام في القومية والوطنية، ص 25-26.

(([5] المحمداوي، علي عبود وحيدر ناظم محمد، مقاربات في الديمقراطية والمجتمع المدني، ص 31.

([6]) ومما يدل على غياب فكرة الوطن بمعنى المصطلح الأوروبي عند المسلمين، ما جاء في مذكرة القنصل الفرنسي في بيروت بلونش التي قدمها عام 1856 إلى وزير خارجية بلاده قال له فيها: "الحقيقة الكبرى والأبرز التي تحضر في أثناء دراسة هذه البلدان هي المكانة التي يحتلها الفكر الديني في أذهان الناس، والسلطة العليا التي يشكلها في حياتهم. فالدين يظهر حيث كان، وهو بارز في كل المجتمع الشرقي، في الأخلاق وفي اللغة والأدب وفي المؤسسات، وترى أثره في كل الأبواب. الشرقي لا ينتمي إلى وطن حيث ولد، الشرقي ليس له وطن، والفكرة المعبرة عن هذه الكلمة، أي عن كلمة وطن، أو بالأحرى عن الشعور الذي توقظه، غير موجودة في ذهنه، فالشرقي متعلق بدينه كتعلقنا نحن بوطننا..."

(([7] حسين، محمد محمد، الإسلام والحضارة الغربية، ص 19.

([8]) محمود، محمد، ضرورة العلمانية، www.alawan.org/

([9]) ويأتي ضمن هذا الإطار تبرير سياسات الحكومات، خاصة في الحروب الخارجية، ومن أشهر ذلك مقولة "عبء الرجل الأبيض" التي نادى بها الشاعر الإنجليزي رُديارد كيبلنغ، إذ رأى أن "الرجل (الأوروبي) الأبيض" عليه أن يتقبل "عبء" تمدين وتحضير "الشعوب الهمجية" التي استعمرتها بريطانيا، وهذا ما يبرر توسع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس في القرن التاسع عشر. وقد وصل الأمر بالمفكر الإيطالي (ماسيمو دازغليو Massimo D’Azeglio) أن قال بعد إعلان الوحدة الإيطالية (1860م): "بعد أن صنعنا إيطاليا الوطن يتعين علينا أن نصنع المواطن الإيطالي". www.it.wikiquote.org

([10]) نقلا عن محمود، محمد، ضرورة العلمانية، http://www.alawan.org.

([11]) المفتي، محمد، مفاهيم سياسية شرعية، ص 92.

([12]) راجع المقابلة التي أجرتها قناة العربية الفضائية مع مايكل هايدن رئيس المخابرات الأمريكية المركزية سي أي إيه، في 2015/8/11 ، فيديو المقابلة على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=iJjq-UWDlbQ ، وأضاف هايدن في تصريحات لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية: «لنواجه الحقيقة: العراق لم يعد موجودًا ولا سوريا موجودة، ولبنان دولة فاشلة تقريبًا، ومن المرجح أن تكون ليبيا هكذا أيضًا». وتابع: «اتّفاقيات سايكس بيكو الّتي وضعت هذه الدول على الخارطة بمبادرة من القوى الأوروبية في عام 1916 لم تعكس قطّ الوقائع على الأرض، والآن تؤكّد هذه الحقائق على ذكرياتنا بطريقة عنيفة للغاية». وأوضح أن المنطقة ستبقى في حالة عدم استقرار في السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة، معتقدا أن السياسة الهادفة إلى إحياء هذه الدول لن تكون مجدية.

([13]) الجباعي، جاد الكريم، مدخل سياسي إلى العلمانية أو مدخل علماني إلى السياسة، موقع الأوان   www.alawan.org

 

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع