- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جواب سؤال: حول حقيقة خطط الدفاع الصاروخي الأمريكية
السؤال:
صرّح أمس 23/10/2009 الأمين العام للناتو " راسموسن " بأن حلف الناتو يرحب بخطط الدفاع الصاروخي البديلة وفق خطة أوباما، كما أكدت تشيك أنها مستعدة لتكون جزءً من هذه المنظومة الدفاعية وذلك بعد يومين من قبول بولندا، فكيف ذلك؟! ألم يعلن أوباما في 17/9/2009 قراره التخلي عن نصب قواعد صاروخية في بولندا ومنصات للرادار في الجمهورية التشيكية؟ أم أن إعلان أوباما التخلي لم يكن حقيقياً بل هو خدعة لتهدئة روسيا أمنياً مؤقتاً ؟ وإن كان كذلك فهل أمريكا أوباما صارت تحسب حساباً لتنامي قوة روسيا، فأصبحت تهتم بتهدئتها أمنياً، وعليه يكون تفوق أمريكا العسكري قد اهتز، ومن ثم ضعف تحكمها في الموقف الدولي ؟
الجواب:
إن أوباما قد تخلى عن شكل نظام الدفاع الصاروخي الذي رسمه بوش، ولكنه وضع مكانه منظومة دفاعية صاروخية بشكل آخر أقوى في بعض جوانبه من نظام بوش،
ولكنه وضعه في قالب أقل استفزازاً من القالب الذي وضعه فيه بوش، وحتى تتضح الصورة، وتجاب فروع السؤال المذكور، فلا بد من أخذ النقاط التالية بالحسبان:
1- منذ عام 1950 والسياسيون الأمريكان إلى جانب الخبراء الأمريكان يعملون بشتى الوسائل والسبل لحماية أمريكا من خطر صواريخ الاتحاد السوفيتي البالستية (ICBMs). إلا أنّ هذه الجهود انحصرت في نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) الذي تمخض عنه لاحقاً نظام الدرع الصاروخي ضد التهديدات المحتملة للهجوم النووي السوفيتي. وفي عام 1961 توقف العمل بالبرنامج بسبب أمور تقنية، وحلت مكانه مجموعة من مشاريع دفاعية، إلا أنّ تلك المشاريع لم يستمر العمل فيها طويلاً لأنه لم يتم إثبات قدرتها على اعتراض وردع الصواريخ البالستية السوفيتية، كما أنها كانت مكلفة جداً، فضلاً عن أنّها كانت تعاني من مشاكل تكنولوجية رئيسية. ولكن هذه البرامج والبرامج المضادة بالنسبة للتنافس الصاروخي والحماية منه، قد نجحت في دفع كلا البلدين، أمريكا والاتحاد السوفيتي، إلى توقيع معاهدة الحد من انتشار الصواريخ البالستية (ABM) عام 1972. وبحسب الاتفاقية فإنّ كلا الدولتين تستطيع بناء نظام دفاع صاروخي ضد خطر الصواريخ البالستية، إلا أنّ الاتفاقية قيدت كليهما بحدود جغرافية وبأعداد الصواريخ التي يُسمح بنشرها من قبل أي منهما للدفاع عن نفسها. فعلى سبيل المثال نشر السوفيت نظام صاروخي سمي ب (A-35) نظام جالوش الصاروخي(Galosh missile system). وقد كان ذلك النظام لحماية موسكو فقط. ونشرت أمريكا نظاماً دفاعياً وقائياً حول الولايات المتحدة لوقايتها وللدفاع عنها من أي صاروخ يطلق من أي قاعدة تابعة لنظام الصواريخ البالستية السوفيتية (ICBM).
2- تعد مبادرة الدفاع الإستراتيجيةِ (SDA) التي أطلقها رونالد ريغان في 23/3/1983 خرقاً للمعاهدة التي وقعتها أمريكا مع الاتحاد السوفيتي للحد من انتشار الأسلحة البالستية (ABM)، كما أدخلت الاتحاد السوفيتي في حلبة السباق مع أمريكا، ما أدى إلى ضغط اقتصادي على الإتحاد السوفييتي، أدى مع عوامل أخرى إلى انهياره. لقد كانت مبادرة الدفاعِ الإستراتيجيةِ (SDA) أو ما يُعرف بحرب النجوم أكثر المشاريع طموحاً عند الأمريكان التي قاموا بها في السابق لبناء نظام درع صاروخي. فقد كان برنامج حرب النجوم يتضمن نشر الصواريخ، والرادارات، والمضادات على الأرض وفي الجو والبحر والفضاء، ومن ضمنها العديد من محطات فضائية لمعارك ليزر (space based laser battle stations)، ومضخات نووية و أقمار ليزرِ بالأشعة السينيةِ، (Nuclear pumped x-ray laser satellites) وأنظمة قيادة متطوّرةِ جداً وأنظمة تحكم. وكان برنامج حرب النجوم (SDA) كذلك مختلفا عن باقي البرامج السابقة، فهو ليس كنظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) لحماية الولايات المتحدة فحسب بل هو كان مُعَداً لغرض حماية حلفاء أمريكا في أوروبا من خطر الصواريخ البالستية السوفيتية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 تراجع برنامج حرب النجوم، وطبيعياً توقف العمل به، ولكن بقي نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) فاعلاً، وفي فترة حكم بيل كلينتون تم تطوير هذا النظام ثم العمل به مرحلياً. وأصبح محل اهتمام الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن وأصبح النقطة المركزية في توتر العلاقات الأمريكية الروسية. وفي 13/12/2001 أعلن بوش عن انسحابه من معاهدة الحد من انتشار الصواريخ البالستية (ABM)، ويُعَدّ ذلك الحدث هو الأول في التاريخ الحديث لأمريكا الذي تنسحب فيه من معاهدة رئيسية دولية للسلاح، وقد ترتب على ذلك إنشاء وكالة الدفاع الصاروخي الأمريكية التي كان من مهامها وضع خطة طموحة لترميم نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD).
3- في 16/12/2002 أصدر بوش "توجيه الأمن القومي الرئاسيِ رقم 23" (National security presedental directive 23 ) وهو عبارة عن خطة مجملة للشروع بأنظمة للدفاعِ ضد الصواريخ البالستية المعدة للإطلاق. وفي اليوم التالي طلبت أمريكا وبشكل رسمي من بريطانيا والدنمارك استخدام مرافق في كلا البلدين كجزء من عملية ترميم نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD). وقد أعطى بوش نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) اسما آخر هو نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD). وعملياً فإنّ نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) كان يحتوي على مشاريع قواعد فضائية وأخرى بحرية وجوية. وفي شباط 2007 بدأت أمريكا بشكل رسمي في التباحث مع بولندا وجمهورية التشيك بخصوص البدء ببناء قواعد للدرع الصاروخي لتسهيل عمل نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD). وبررت أمريكا سبب شروعها بنظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD) في أنّ هناك دولاً شريرة مثل كوريا الشمالية، وإيران على وجه الخصوص، تعملان على تطوير صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية تهدد المصالح الأمريكية في أوروبا وإسرائيل! في حين أن الحقيقة كانت محاصرة روسيا وإبقاءها في دائرة تهديد الدرع الصاروخي الأمريكي. وقد أدركت روسيا حقيقة هذا الأمر، واعتبرت نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD) تهديداً قاتلاً لأمنها. وفي تشرين الثاني 2008 قال السفير الروسي للنيتو "دميتري روجزان" بأنّ الصواريخ الأمريكية في بولندا تستطيع أن تضرب موسكو خلال أربع دقائق. ولإحراج أمريكا وإظهار زيف زعمها أنها من أجل إيران، فقد عرضت روسيا على أمريكا بان تنشر راداراتها بجانب رادارات روسيا في قاعدتها "غابالا" في أذربيجان فهي أقرب إلى إيران من تشيكيا وبولندا، إن كان الهدف هو إيران! فلم توافق أمريكا لأن الهدف كان نصب القواعد في أوروبا الشرقية لتهديد روسيا...ولا تريد أن تشارك روسيا في قاعدتها فتكون تحت نظرها مادام الهدف هو روسيا نفسها!
وهكذا، فإن روسيا كانت تدرك أن الدرع الصاروخي موجه ضدها وليس ضد تلك الدول الشريرة! ولذلك فإن بوتين قد هدد في نيسان 2007 بحرب باردة جديدة إذا ما بقيت أمريكا مصرة على نشر الدرع الصاروخي في أوروبا الوسطى. وزيادة على ذلك، وكرد على التهديدات الأمريكية، فإنّ بوتين هدد بالانسحاب من معاهدة القوى النووية (Nuclear forces treaty) التي وقعت مع أمريكا عام 1987، ثم هدد بنشر صواريخ في مقاطعة كاليننغراد (Kaliningrad) على بحر البلطيق القريبة من بولندا، وذهب أحد الجنرالات الروس إلى أبعد من ذلك حيث هدد بقصف بولندا إن هي أصرت أن تكون جزءاً من الدرع الصاروخي الأمريكي. ففي 15 آب 2008 قال الجنرال الروسي "اناتولي نوجوفتسن (Anatoly Nogovitsyn)"، قال: "إنه باستضافة بولندا للدرع الصاروخي فإنّها تجعل من نفسها هدفاً، هذا أكيد 100% ، فقد أصبحت هدفاً للهجوم، وتدمير هذا الهدف يحتل صدر الأولوية."
4- قبل إعلان أوباما الرسمي التخلي عن خطة الدرع الصاروخي الأمريكي في بولندا وجمهورية التشيك، كان اوباما قد صرح في أوائل أيلول 2009 بأنه سيتخلص من خطط للدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية لصالح نظام دفاع صاروخي مركب على سفن حربية أمريكية. لذلك فإنّ إعلان أوباما في 17/9/2009 التخلي عن الدرع الصاروخي الأمريكي كان متوقعاً منه، وقد جاء ذلك بعد أن طلب تقييم برنامج "بوش" الدفاع الأرضي الأوسط (GMD).
5- أما هل تخلي أوباما عن مشروع "بوش" نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD) هو حقيقي أو خدعة لطمأنة وتهدئة روسيا أمنياً مؤقتاً، فإنه يمكن فهم ذلك من استعراض الأمور التالية:
أ- ما جاء في خطاب أوباما الجديد عن المشروع حيث قال:" لقد وافقت على العديد من التوصيات لوزير الدفاع ورئيس الأركان لتقوية الحماية الأمريكية ضد أي هجوم محتمل من الصواريخ البالستية. هذا النهج سيولد قدرات أسرع، ويبني نظاماً أكثر كفاءة، ويوفر شكلاً دفاعياً أكبر ضد التهديدات الصاروخية من برنامج الدفاع الصاروخي الأوروبيِ 2007" وأضاف اوباما " لقد أحرزنا تقدماً ملحوظاً في تطوير صواريخنا الدفاعية وخصوصا في بطاريات الصواريخ الأرضية والبحرية وفي المعدات الداعمة لها. إنّ نهجنا الجديد سيمكننا من نشر التقنية الحديثة والمتقدمة بشكل أسرع من النظام السابق... إن النظام الجديد في أوروبا سيكون أكثر قوة وأذكى وأسرع لحماية القوة الأمريكية وحلفائها، من النظام السابق، فهو سينشر قدرات أكثر كفاءة وفاعلية، ويؤكد ويبني الثقة في تعهدنا بحماية أمريكا من تهديدات الصواريخ البالستية، ويؤمن ويعزز حماية حلفائنا في النيتو".
ب- فنّد وزير الدفاع روبرت غيتس (Robert Gates) الانتقادات العديدة التي وُجهت ضد قرار اوباما بالقول " إنّ الذين يقولون بأننا نبذنا الدفاع الصاروخي في أوروبا، إما أنهم لم يسمعوا الخبر بشكل صحيح أو أنّهم لم يفهموا الموقف على حقيقته" كما أكد غيتس على أنّ النظام الجديد "يزود قدرات دفاعية صاروخية أفضل من البرنامج السابق الذي بُدئ به قبل ثلاثة أعوام تقريبا "وأضاف" لدينا الآن فرصة نشر مجسات ومعترضات صاروخية في شمال وجنوب أوروبا التي ستتمكن -على المدى القريب- من اعتراض الصواريخ القادمة من إيران وغيرها".
ج- من خطاب أوباما ووزير دفاعه يتبين أنهما لا يتحدثان عن هجران نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD)، بل على العكس من ذلك فهما يتحدثان عن برنامج أكثر تعقيداً. وقد كشف غيتس عن خطته للجيل الجديد من نظام الدفاع الصاروخي القومي (NMD) حيث قال" الخطوة التالية في عام 2015 تقريباً ستتضمن قواعد أرضية ميدانية ومرنة SM-3s". وكذلك فقد ورد على صفحة "Euronet" تصريح للجنرال جيمس كارترايت (James Cartwright) وهو نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية في التعليق على نشر الصواريخ المقترح "غالباً سيكون نشر الرادارات في منطقة القوقاز لأنّها ستكون أقرب في التقاط الإنذارات المبكرة".
6- وعليه فإنه يتبين أن التخلي عن نظام الدفاع الأرضي الأوسط (GMD) في بولندا والتشيك سيكون مؤقتاً لإرضاء روسيا. فقد كان غيتس ماكرا في عدم ذكر فتح مباحثات البنتاغون مع كلا البلدين بولندا والتشيك بخصوص استضافة النموذج الأرضي لنظام SM-3 وتجهيزات أخرى للنظام. وكذلك المباحثات حول ما تسرب من أن تركيا وجورجيا وأذربيجان يمكن أن يدخلوا في منظومة نشر الصواريخ الأمريكية، وقد ترتب على هذه التسريبات قلق شديد لروسيا لأن هذا يعني أن نشر القواعد الصاروخية الأرضية قد يمتد إلى الحديقة الخلفية، هذا فضلاً عما سببه خطاب أوباما الجديد ووزير دفاعه من قلق أشد، ولذلك فإنه على الرغم من ترحيب روسيا بقرار تخلي أوباما في 17/9/2009، وتصريح الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف في 25/9/2009 بأنه سيسحب قراره المتعلق بنشر صواريخ كاليننغراد، إلا أن ردود فعلها الأخرى كانت تشير إلى عدم الاطمئنان بقرار أوباما، ولهذا فقد رد الناطق الرسمي في وكالة المعلوماتِ الروسيةِ على خطابي أوباما ووزير دفاعه السابقين بالتعليق:"كما توقعنا فإنّ باراك أوباما عندما خطب في 24/9/2009 فإنّه لم يتحدث عن التخلي أو تأجيل أي شيء، بل تبنى برنامجاً دفاعياً صاروخياً جديداً، مبنياً على أسس متطورة ومتقدمة تكنولوجياً، قادرة بشكل أفضل على مواجهة التهديدات الصاروخية الحالية، فقد قال اوباما بأنّ البرنامج أكثر كفاءة من البرنامج السابق الذي كان يضم بولندا والتشيك."
7- أما هل اهتز تفوق أمريكا العسكري ومن ثم التحكم في الموقف الدولي، وأنها تحسب حساباً لتنامي قوة روسيا العسكرية، فإنه من الواضح أنّ أمريكا لم تعد تتمتع بالهيمنة على العالم كما كانت تتمتع بها قبل غزوها العراق، إذ إنّ العراق وأفغانستان استنزفتا قواها واستنزفتا مصادرها. إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي فاقمت من ضعف موقف أمريكا في العالم. ولكن بالرغم من جميع ذلك فإنّ أمريكا ما زالت الأكثر تفوقاً في المجال العسكري، والأكثر هيمنة في الموقف الدولي، فهي ما زالت قادرة على فرض جدول أعمال العالم، وقادرة على التحكم بالموقف الدولي. إلا أنّ أمريكا تواجه العديد من التحديات والمنافسات من القوى الرئيسية الأخرى. ونتيجة لبروز أزماتها سالفة الذكر فقد تعاظمت التحديات من خصومها بشكل كبير.
أما بالنسبة إلى روسيا، فقد تمكنت من استغلال أزمات أمريكا، والاستفادة من ارتفاع أسعار النفط لتحول جزء من الثروة الاقتصادية إلى مصادر عسكرية وقوة سياسية، وقد لوحظ دور روسي إلى حد ما في أمريكا الوسطى والقوقاز وأوروبا وآسيا الوسطى، حتى إنه قد صار يتداول تعبير" الدبّ الروسي الناهض" لوصف الوضع الروسي الحالي... ولكن على أية حال فإنّ روسيا بعيدة جدا عن استرجاع أيامها الذهبية الماضية، فهي لا زالت تعاني من أزمات الضعف الهيكلي في الجوانب السياسية والاقتصادية، ما يمنعها من المناطحة القوية في الموقف الدولي في المدى القريب.