- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2016-01-20
جريدة الراية: المفاوضات ودبلوماسية التنازلات والمؤامرات
الرأسمالية والاستعمار كالدجاجة والبيضة، يمكن أن يكونا محل جدل: أيهما يقود للآخر؟ ويمكن المجادلة حول مدى الارتباط بينهما؟ ولكن ما لا جدال فيه هو ما يُشاهد بالحس من سير الغرب الرأسمالي على طريقته في فرض السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية على الشـعوب المغلوبة، وإصراره على ديمومة تلك الهيمنة. وهذا هو الاستعمار للشعوب، إذ يسلب المستعمِر إرادة الشعوب ويرهنها بإرادته ومصالحه. وهو يفرض هيمنته عبر ما تُسمى القوة الصلبة والقوة الناعمة: حيث يستخدم الحروب العسكرية ويريق الدماء، كما يناور بالأساليب والخطط السياسية والتحركات الدبلوماسية على الطاولات "النظيفة"، ليحقق مصالحه السياسية والاقتصادية وغيرها.
وتأتي المفاوضات كتفريعة دبلوماسية عن القوة الناعمة التي يسخرها الغرب المستعمِر لتحقيق مصالحه، وللحفاظ على هيمنته وسيطرته على الأمة الإسلامية، كواحدة من الأمم التي غلبها بعد هدم الخلافة وأخضعها لإرادته. والمفاوضات أسلوب لتسوية الخلافات (السياسية) بين طرفين تربطهما قضية ويتجاذبانها، وهي عملية (دبلوماسية) تدار فيها التنازلات للوصول إلى اتفاق "مقبول" يجنب المتصارعين المواجهة المسلحة.
صحيح أن المفاوضات من أساليب القوة الناعمة، ولكنها تعقب أحيانا استخدام القوة الصلبة (الحروب)، بل يمكن أن تراق الدماء في الحروب لأجل فتح باب المفاوضات وتحريك وفودها، كما حصل في حرب أكتوبر 1973، التي خاضها السادات (بإرادة أمريكية) تمهيدا لمفاوضات كامب ديفيد بين مصر وكيان يهود (وقد سميت بالحرب التحريكية).
وهو مشهد يكاد يتكرر مع اختلاف الفرقاء في الحرب الدائرة في اليمن، حيث حرّكت أمريكا التحالف السعودي، وهي تدرك نهاية المطاف في جلوس الفرقاء على طاولة المفاوضات، من أجل أن تعزّز من الحضور السياسي لعملائها في أوساط سياسية يمنية ظلّت عريقة الارتباط ببريطانيا على مدار عقود، ولا يختلف المشهد الليبي عن اليمني كثيرا. ولذلك تأتي المفاوضات - التي تديرها الدول الغربية - لتحقيق الأهداف التي أشعلت الحروب من أجلها، لتبقى ديمومة الاستعمار والهيمنة الغربية (والأمريكية على الأخص) هي كلمة السرّ.
إذن، في العالم الإسلامي تراق الدماء في الحروب التي يحركها الغرب الاستعماري لتفتح باب المفاوضات، مع أن أصل المفاوضات أنها لتجنب إراقة الدماء. ثم يجري تضليل للناس وتسكين لآلامهم عبر دندنة المفاوضين وقرقعة طاولات المفاوضات، ويمنّيهم المفاوضون بأنهم يدافعون عن حقوقهم ومصالحهم (الوطنية)، وأنهم سيحققون لهم الأمن عبر المفاوضات بعد الحرب، ويدغدغون المشاعر بأنهم سيحولون تورا بورا إلى سنغافورة، كما وعد المفاوضون الفلسطينيون بتحويل فلسطين إلى سنغافورة الشرق الأوسط، وإذ بها تصبح أفظع من تورا بورا أفغانستان، بل ويستوردون منها نهج الكرازاي، في مزيد من الإذلال.
وفي تنفيذ نهج المفاوضات، يستند المستعمر إلى فئة من الأمة تكون قد ارتمت في حضنه وتشربت ثقافته وتبنت مصالحه، (في الغالب عن عمالة وقد تكون أحيانا عن جهالة)! ثم تكون هذه الفئة جوقة الدبلوماسية التي تعزف على ألحان الغرب، بعد أن يوفر لها المستعمِر الغطاء الشعبي ويحقق لها التفويض السياسي اللازم لجعل نتيجة المفاوضات أمرا مشروعا. ويتنافس المنتمون لتلك الفئة على فكرة "التمثيل" أو التفويض، مثل التنافس الفصائلي على منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس الوطني الليبي، والائتلاف الوطني السوري، وغيرها، مع أن المقاتل أو المجاهد لا يحتاج لأن يمثل أحدا.
وهنالك معادلة مشتركة ومتكررة يعيد الغرب الاستعماري تطبيقها في المفاوضات على قضايا المسلمين، بلا كلل ولا ملل: حيث، تتضمن المحاور التالية:
- إيجاد إطار أو ائتلاف سياسي تتزعمه شخصية كاريزمية ذات حضور شعبي، أو ديني أو قبلي. مثل الائتلاف السوري، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
- تأمين الاعتراف السياسي (والدولي) لها، كشهادة اعتماد بأحقية تلك الفئة بالتمثيل للقضية السياسية، وعلى أنها تمتلك الصلاحية السياسية في التعبير عن تطلعات الشعب، وهنا يبرز التسخير الخاطئ لما يسمى بالسجل النضالي والمنجزات العسكرية ورصيد الشهداء. ولذلك جعل الحكام العرب - زورا - منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد لقضية فلسطين.
- الحضور الرسمي في المحافل الدولية والإقليمية مع الإبراز الإعلامي، واحتضان تلك الفئة في المؤتمرات السياسية، وعبر تخصيص المقاعد الرسمية في المحافل والقمم الدولية، مثل تخصيص مقعد لمنظمة التحرير وآخر للمعارضة السورية في الجامعة العربية.
- تضخيم جعجعة المفاوضات لفترة من الزمن، حتى ينضج نوع من القبول (أو الاستسلام الشعبي) لما يفرضه المستعمِر من حل سياسي، وتكون المفاوضات مجرد أسلوب لتنفيذه، ويكون المفاوضون أدواته.
إن النظرة الواعية لما جرى - وما يجري - في اليمن وليبيا وفلسطين، وأفغانستان، وما يحاول المستعمِرون فرضه على سوريا لا يخرج عن هذا السياق:
وللتدليل على ذلك، نستحضر أولا المخطط الأمريكي في سوريا: إذ عملت أمريكا على ديمومة شلال الدماء وهطول البراميل المتفجرة على الأطفال والآمنين العزّل، مع الحفاظ على نظام بشار حتى يتقبل الشعب مسيرة المفاوضات مع النظام، وتتابعت مؤتمرات "أصدقاء" سوريا، حتى وصلت القضية إلى مؤتمر الرياض الذي تم فيه ترويض عدد من الفصائل المقاتلة في الشام على مبدأ التفاوض، وسارت فيه على المعادلة نفسها المذكورة أعلاه، وكل ذلك تحت السقف الأمريكي، الذي تتحرك تحته السعودية وتركيا، وغيرها من الدول الإقليمية.
ونستحضر ثانيا مسيرة المفاوضات الخيانية المستمرة بين السلطة الفلسطينية وبين الكيان اليهودي، فهي تجري منذ عقود تحت السقف الأمريكي القاضي بحل الدولتين، وقد قدّم قادة المنظمة كل التنازلات بلا مقابل إلا الحصول على وظائف بلدية خدماتية تديرها نيابة عن الاحتلال وتجعله رخيص الكلفة على اليهود، ثم تحقق للمحتل أمنه.
إن حقيقة نهج المفاوضات هي أنها أداة بيد الدول الاستعمارية وهي لا تقل خطرا عن الحروب العسكرية، وهذه الحقيقة شاخصة أمام المتابعين وأمام المقهورين، ولا يسير فيها إلا منتفع مأجور، ولا يسايرها إلا مثله، أو نعامة تدفن رأسها في رمال المؤامرات، وترفض إبصار الحقيقة.
إن الأمة الإسلامية ذات العقيدة الربانية لا تعرف التنازلات، وهي ترفض الفكرة الرأسمالية في الحلول الوسط (التي تمررها المفاوضات)، بل هي تنظر للقضايا من منظور الحق والباطل، ولا يمكن أن تنظر للحياة على أنها مفاوضات (أو تنازلات) بل هي تضحيات لرفع شأن الأمة ومبدئها.
بقلم: الدكتور ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
المصدر: جريدة الراية