الخميس، 26 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حرب الأفكار: تفكيك الإسلام وإنتاج المسخ

"الدولة المستحيلة لوائل حلاق - حلقة متقدمة في عملية التفكيك"

 

ما زال كتاب "الدولة المستحيلة" وصاحبه وائل حلاق قنبلة فكرية من العيار الثقيل ولغما معرفيا شديد التدمير في حرب الأفكار الدائرة اليوم ضد الإسلام، فالمسألة تتجاوز الكتاب وصاحبه إلى رؤية سياسية كامنة خلفه، كما أن الكتاب هو جزء من مشروع فلسفي أوسع ونسق معرفي أشمل وخطوة جد متقدمة في منهج التفكيك والتوليد الذي بات مركزيا في حرب الأفكار وسلاحا استراتيجيا في حرب الغرب الحضارية ضد الإسلام العظيم.

 

فاستدعاء كتاب "الدولة المستحيلة" وكاتبه وائل حلاق النصراني الديانة والغربي الثقافة، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية بجامعة كولومبيا والذي عمل أستاذا للشريعة بجامعة مكغيل، وحصل منها على شهادته بمعهد الدراسات الإسلامية، فهذا الاستدعاء ليس صدفة ولا مصادفة.

 

فالكتاب صدر سنة 2012 عقب انتفاضة الشعوب المسلمة في كثير من البلاد الإسلامية، وتمت ترجمته سنة 2014 عبر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، كما أن الرجل تناول خلال عقد ويزيد كثيرا من قضايا الإسلام الحارقة والتي تشكل صلب المسألة الحضارية ومادة ساحة صراعها ودائرة حرب أفكارها، ما ينزع عن الفعل كل تفسير عفوي وعن الحدث كل مصادفة أو تصادف.

 

فالمادة الفكرية التي تناولها هي من صميم بارود ورصاص الحرب الفكرية، وهذه كتاباته والقضايا التي تناولتها تنطق بذلك: "الشريعة النظرية والتحولات"، "مدخل إلى الشريعة الإسلامية"، "ما هي الشريعة؟"، "الدولة المستحيلة الإسلام والسياسة"، "نشأة الفقه الإسلامي وتطوره"، "دراسات في الفقه الإسلامي"، "السلطة المذهبية التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي"، "القرآن والشريعة نحو دستورية إسلامية".

 

ثم كانت إثارة كل تلك الجلبة والضجة حول كتاب "الدولة المستحيلة" مع كل ذلك الجدل واللغط، وكل ذلك كان متعمدا إحداثه ومقصودا ومستهدفا تحققه (علما أن في الفترة نفسها كانت ترجمة كتاب نوح فيلدمان "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" مرّ كأن لم يكن!)، فالإيمان بالصدفة والمصادفة في الزمن السياسي مغالطة كبرى ومجازفة مدمرة، بل يكون الكفر وأشد الكفر بالصدفة والمصادفة عندما تكون رحى الحرب الحضارية ضد الإسلام وحرب أفكاره دائرة على مدار الساعة لا تعرف كللا ولا مللا.

 

ثم سُوِّقَ وروج لصاحب الكتاب كمفكر في قضايا الفكر الإسلامي، وبشكل مكثف ومدروس ومقصود عبر مراكز ومعاهد وفضائيات دويلات الوظيفة الاستعمارية ومنصاتها ومواقعها الرديفة، وعقدت له ومعه الندوات والحوارات وتكفلت معاهد ومراكز الوظيفة بالترجمات، ولتلميعه وإشهاره عَدَّهُ أحد مراكز السخرة الاستعمارية (المركز الملكي للبحوث والدراسات بالأردن) كواحد من 500 شخصية مسلمة تأثيرا في العالم، وإن تعجب فعجب شهادتهم!

 

فالقضية كما أسلفنا تتجاوز الكتاب وصاحبه إلى نسق معرفي يراد استحداثه وإخضاعه للتجربة عبر استئناس أهل الدار به، ونعني المسلمين، وإعدادهم للقبول بهكذا إنتاج وإنشاء معرفي كجزء من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية. وهنا تكمن الخطوة المتقدمة في المنهج التفكيكي الغربي، في محاولة تجاوزه لمطبات الاستشراق والحاجز النفسي لدى المسلمين تجاهه باعتباره أداة من أدوات الاستعمار وأسلوبا فكريا للهيمنة. أما ما يتم عبر منتوج وائل حلاق فهو تقديم المنتج الفكري كمنتج محايد موضوعي صاحبه متعاطف مع أهل الدار وقضاياهم بحكم معاناته كفلسطيني، عطفا على ذلك فهو ناقد للحداثة وإفرازاتها، وهنا إسفين الخديعة الكبرى القاتل!

 

فالمنهج التفكيكي اليوم أخذ بُعداً أكثر تركيبا وتعقيدا لإخفاء الدسيسة ومحاولة التعمية التامة عن المكر والخديعة، فحرب الأفكار اليوم قد نحت منحًى تصاعديا فهي تستهدف تفكيك وهدم حقائق الإسلام وتوليد مفاهيم علمانية المضمون إسلامية الشكل، ثم ضخها بوصفها معارف إسلامية في دائرة الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية.

 

فالترويج لهكذا نموذج وسَوْقُهُ إلى الساحة الفكرية الإسلامية بوصفه مفكرا في قضايا الإسلام، هو استباحة لحصن الفكر الإسلامي الحصين وسياج ثقافته الإسلامية المتينة، واقتحام لحماه المعرفية من كافر به ذي حمولة حضارية وثقافية غربية متجدرة ومناقضة، ما يعطي الانطباع بأن البناء والإنشاء فكرا وثقافة في الإسلام ليس من شروطه بل شرطه الجوهري الأساسي الإيمان به والبناء على عقيدته، علما أن من بديهيات الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية أنهما نتاج إسلامي خالص أساس أبنيتهما العقيدة الإسلامية ومصدرهما الوحي. فقد عرّفت الثقافة الإسلامية بأنها "المعارف التي كانت العقيدة الإسلامية سببا في بحثها سواء أكانت هذه المعارف تتضمن العقيدة الإسلامية وتبحثها مثل التوحيد، أم كانت مبنية على العقيدة الإسلامية مثل الفقه والتفسير والحديث، أم كان يقتضيها فهم ما ينبثق عن العقيدة من الأحكام مثل المعارف التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام كعلوم اللغة العربية ومصطلح الحديث وعلم الأصول"، فهذه كلها ثقافة إسلامية لأن العقيدة الإسلامية هي سبب بحثها.

 

وعليه فترويج وتسويق هكذا نموذج معرفي هو في حقيقته محاولة لتفكيك وهدم الإسلام وتوليد وإنتاج المسخ، عبر تشويه ومسخ دلالات ومعاني مفاهيم الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية. فيؤتى بالنص الإسلامي ويعمل فيه بأدوات الحداثة لانتزاع مفاهيم ومضامين حداثية غربية بمفردات إسلامية، وتسوّق من البلهاء وبسطاء المثقفين على أساس أنها مفاهيم إسلامية وتحسب على دائرة الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية!

 

فمثلا التفكير في الديمقراطية كنظام حكم بأدوات الإسلام المعرفية (أسسه العقدية وأصوله الفقهية وقواعده اللغوية ومعاييره الفقهية) يوصل إلى محصلة فقهية أن الديمقراطية كفر، والنتيجة هنا فكر إسلامي وثقافة إسلامية! كما أن التفكير في الدولة الإسلامية بأدوات الفكر الغربي المعرفية (تعريفه للدولة، مفهومه للتشريع، مفهومه للسيادة، مفهومه للسلطة، مفهومه للإدارة) يوصل إلى محصلة حداثية أنها مستحيلة، والمحصلة منطقية حداثيا فهي نتيجة تفكير حداثي وشق من فكر حداثي غربي، واستحال أن تكون فكرة إسلامية!

 

والتفكيك الغربي اليوم يسعى إلى فرض نتائجه الحداثية بوصفها نتائج إسلامية، وجعلها فرعا من فروع الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهنا صلب المعضلة الفكرية التي تطرحها فلسفة وائل حلاق، والحقيقة أن فلسفته هي غزو فكري ناعم وهو الأخطر.

 

والغريب هو انطلاء الخديعة على بعض أبناء المسلمين بعد انحراف زاوية النظر انحرافا حادا وفقد البوصلة وضياع الرؤية ضياعا تاما، وزاد الطين بلة أن استبطن البعض منهم زاوية موهومة مسكونة بالمشاعر التي دغدغها وائل حلاق عبر كيل المديح لأخلاق المنظومة الإسلامية، فصارت زاوية نظرهم هي عداء الرجل للإسلام من عدمه وضاعت معها الفلسفة، واستنزفهم هكذا توهّم فانبروا للدفاع عن حلاق ثم أتبعوها بالدفاع عن رؤيته!

 

معشر العقلاء! لتصحيح الزاوية واستعادة البوصلة وتجلية الرؤية لا بد من تحرير موضع النزاع المتعلق بحلاق وفلسفته، فالقضية الأولى هي هل حلاق وفلسفته جزء من مدرسة التفكيك الغربية ومشروعها التفكيكي؟ الجواب هو قطعا وحتما نعم. أما القضية الثانية فهي زاوية نظر حلاق ومرجعيته الفكرية، ولنترك فلسفة وائل حلاق تخبر عن نفسها. ففي حوار له مع "معهد العالم للدراسات في أسئلة الواقع وإجاباته" حول سؤال عن خلفية كتابه "الدولة المستحيلة"، كان جوابه: "أحد الأهداف الأساسية للكتاب أن يسلط الضوء على مشكلة الدولة طويلة الأمد في المشروع الحديث ودعوة المفكرين والأكاديميين الغربيين لإعادة التفكير في هذه المشكلة في ضوء التجارب التاريخية الأخرى... والتجربة الإسلامية بمنتجاتها الفكرية والثقافية يمكن أن تقدم زادا وعتادا للتفكير بالطريقة التي يمكننا بها أن نعالج إمكانات الخروج من أزمات الحداثة".

 

فالرجل فلسفيا ابن الحداثة الغربية ويفكر داخل الأنساق المعرفية للفلسفة الغربية، ويفكر في الحداثة ومن أجل الحداثة وتحديدا لتصحيح الحداثة، وكتابه "تصحيح الحداثة" ينبئك عن سقف الرجل من فلسفته فهو تصحيح الحداثة المتهالكة، أي أن حلاق يسعى لترميم أحجار الصنم وليس هدمه كما يتوهم البعض، فنقده ليس نقضا بل هو ترقيع للمنظومة الغربية المتهالكة.

 

ثم تحدث في حواره عن "مركزية الأسئلة التي يثيرها كتابه وبأن الإشكالات التي يطرحها الكتاب تكمن في لب الاهتمامات العربية والإسلامية". فليس غريبا ولا مستغربا أن يقتحم علينا الغرب قضايانا الفكرية والثقافية وينغمس فيها لأننا ببساطة في دائرة فعله السياسي وهيمنته الاستعمارية، ولكن المستغرب أشد الاستغراب هو عدم تفطن مثقفينا إلى هذا الاقتحام من كونه على حساب الإسلام ورؤاه، فهو اقتحام ممتلئ ومثقل ومشحون بحمولة الغرب الحضارية ومعارفه الفكرية والثقافية، فهو اقتحام احتلال وإحلال لرؤى الغرب الفلسفية والثقافية محل الفكرة الإسلامية ورؤيتها، فهو ليس تطفلا ولا فضولا معرفيا بل هو غزو فكري مكتمل الأركان متطور شديد التركيب والتعقيد.

 

فمشروع حلاق الفلسفي ليس فلسفة إسلامية ولا فلسفة الإسلام عن الحياة، ولا علاقة لفلسفته بالإسلام مطلقا، ولا تعتبر قطعا ثقافة إسلامية لأن العقيدة الإسلامية لم تكن شيئا في بحثها، بل لم تلاحظ البتة حين بحثها وإنما كانت الفلسفات الغربية هي موضع بحثها ومركز تنبهها. كما أن رؤية حلاق الفلسفية ليست رؤية محايدة وموضوعية كما يتوهم البعض، بل هي منحازة كما يجب على الفلسفة أن تكون، فالفلسفة هي التعبير عن جوهر وروح الثقافة، والرجل فلسفيا وثقافيا غربي الفكر والهوى وفوقها غربي المعتقد، وكتاباته ترجمان لمعتقده وفكره وهواه، فمشروعه الفلسفي غربي قلبا وقالبا. فمشروع حلاق الفلسفي تفكيكي إلى أقصى الحدود وأبعد المسافات، فدعونا من التزحلق على سطح القشرة الفلسفية ولنغص في المشروع الفلسفي ومراميه لنناقش بعض القضايا الفلسفية ذات الصلة بثقافتنا الإسلامية كيف تناولها تفكيكا وتوليدا.

 

يجادل حلاق في كتابه "ما هي الشريعة؟" الذي صدرت ترجمته العربية عن مركز نماء للبحوث والدراسات سنة 2016، من كون التصور الاستشراقي الحداثي عن الشريعة قاصراً، يعني أن الرجل يسعى لسد نواقصه فهو لا يحاكمه ولا يحاججه، وسيرا على درب من سبقه وإن ادعى مخالفتهم، فهو كما هم لا يذهب لاستنطاق الثقافة الإسلامية للأخذ بتعريف الشريعة من أصولييها وفقهائها وأهلها المختصين بها وفيها، بل يتعسف ويتكلف معرفته بها أكثر من أهلها، ثم ينزع عن الشريعة طبعها القانوني كأحكام شرعية تحت ذريعة انتزاعها من قبضة التصور الحداثي الاستشراقي ليأتيك بتصوره هو الهلامي الفضفاض الذي يتسع ويشمل كل هراء وحشو، مجيبا عن سؤال ما هي الشريعة؟ بقوله "ليس من المبالغة في شيء إذن القول بأن الشريعة قد مثلت في الأصل مركبا معقدا في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، مركبا يخترق البنية الإبستمولجية للنظامين الاجتماعي والسياسي. ممارسة خطابية تقاطعت فيها هذه العلاقات وتفاعلت فيما بينها وأثرت فيها بطرق لا حصر لها"، ومصطلح الممارسة الخطابية في النص هو اقتباس له من فوكو أحد أعمدة فلسفة التفكيك الغربية، ويعني المصطلح أنها تنطوي على دلالات متعددة.

 

لو كانت بغية حلاق البحث عن الحقيقة العلمية خارج القصور المعرفي للاستشراق والحداثة، لاقتضت شروط المعرفة أن يسائل الثقافة الإسلامية في دلالة مصطلحاتها هي، فالشريعة اصطلاحا بنتُ الثقافة الإسلامية، فالواجب سؤال أمها وذويها عنها. كان يكفي الرجل تعريف الثقافة الإسلامية للشريعة من كونها "هي مجموع الأحكام الشرعية العملية التي جاء بها الوحي". لكن لحلاق أغراضه وأهدافه الخاصة وليس من هذه الأغراض حقيقة الشريعة وأحكامها وأنظمتها مصدرا وغاية، بل له أغراضه السائر بحسبها وهي سعيه الحثيث في توليد رؤية فلسفية خاصة به موضوعها الإسلام وقضاياه الحارقة، والتي تفرض نفسها في مضمار الصراع الحضاري القائم. فحلاق يسعى لتوليد رؤية ثقافية خاصة به مرجعيتها الغرب، وفلسفة تجعل لمصطلحات الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية دلالات غير دلالاتها ومضامين غير مضامينها، بعد أدلجتها بحسب الأنساق المعرفية الغربية وشحنها بفلسفة الغرب ورؤاه المعرفية.

 

أما عن حديثه المتكرر عن الأخلاقي والأخلاق، وقوله "إن الأخلاقي هو نطاق الإسلام المركزي" ويضيف "إن استدعاء الأخلاقي هو دعوة للوعي بتشكيل الذاتية البشرية، ووعي بالدور المحوري الذي يلعبه الفرد باعتباره أهلا للمسؤولية الأخلاقية وللمساءلة"، فالأخلاقي والأخلاق في فلسفته بمفهوم الوازع الذي يكبح جماح الحداثة وتفلتاتها عبر كبح جماح إنسانها، والوازع الذي يستهدفه أعلى من الضمير الذي بان عواره وقصوره، لذا فحديثه عن الأخلاقي في الإسلام لا يعني البتة الأخلاق كأحكام شرعية ولكن ذلك الوازع الذاتي الدافع للامتثال والطاعة الذاتية حتى ولو انتفت السلطة الرادعة، فحديثه عن ذلك الوازع الرادع الذي يعلو السلطة المادية "الدولة" يعبر عنها بقوله "التهذيب الأخلاقي للذات عبر مرجعية أخلاقية تنتج ذاتا مُرَوضة أخلاقيا للاشتباك مع العالم وقضاياه"، وحلاق في بحثه عن ذلك الأخلاقي بمعنى الوازع المتجاوز للضمير فهو غير معني ولا يعني نفسه بالعقيدة الإسلامية، أي البذرة التي أثمرت ذلك الوازع بقدر اهتمامه بآلية الفعل.

 

بل سيرا على منهجه في التفكيك والتوليد وبعد تفكيكه للأخلاقي يولد فلسفة أخلاقه عبر ادعائه تحديد أهم مبدأ أخلاقي بقوله "هو عدم القدرة على أو الامتناع عن ارتكاب عمل ما ليس لأنك لا تستطيع فعله من حيث المبدأ، بل لأنك لا تستطيع العيش مع نتائجه"، فالرجل يسعى لتوليد معرفة متعلقة بالمعيار والمقياس للفعل وعدم الفعل، فنحن هنا أمام محاولة توليد فلسفة دين وضعي له مرجعيته ومعياره، فنحن هنا في صلب عملية تكوين المسخ، وفلسفة حلاق أحد معامله.

 

خبرنا قديما كيف أفسد التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية أفهام بعض المسلمين واستمر أثره إلى يوم الناس هذا، وأحدث ضلالات في المعرفة والإدراك وعكر صفو ونقاء الفكرة الإسلامية، فمفهوم التقشف الهندي والكسل الدنيوي المرافق له الذي حل محل الزهد فنشأ عن هذا الفهم المغلوط التصوف والمتصوفة، أما الفلسفة اليونانية فكان أثرها أقبح وأشنع فقد أحدثت ضلالا في الفهم بطبيعة انشغالاتها بما وراء الطبيعة وعالم الغيب وتعرضها لبحث وجود الإله وصفاته، فنشأت جراء ذلك بحوث في الغيبيات عن العقل بأدوات العقل من فئة من المسلمين جلي فيها التأثر، فظهرت مسائل بحث الصفات وهل الصفة عين الموصوف أو غيره، ومن مثل خلق الأفعال وخلق القرآن وغير ذلك من المسائل الغيبية، فأثرت الفلسفة اليونانية في طريقة الاستدلال عبر منطقها بل وحتى في بعض الأفكار، ونشأ عن ذلك علم الكلام وصار فنّاً خاصا ونشأت معه جماعة المتكلمين.

 

إلا أن هذا الأثر لم يكن بمستوى تأثير الغالب في المغلوب كما هو اليوم ومع ذلك أحدث ما أحدث، ولكن كان أثرا على الغالب وهو يحمل دعوة الإسلام العظيم للعالم، والأثر هناك من الآثار الجانبية السلبية الناجمة عن الاحتكاك الحضاري ونشاط الإسلام الحيوي في نسف وهدم الثقافات وصهر الشعوب والأمم في بوتقة الإسلام.

 

أما اليوم فالمعادلة معكوسة فهي تأثر مغلوب بغالب، فالمسألة متعلقة بصد هجمة من حرب حضارية صليبية طاحنة وانغماس تام في حرب فكرية شرسة، والتأثير والتأثر يعني خسارة الحرب الفكرية والانتحار الحضاري وفوق ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، فشرط النصر في حرب الأفكار الحرص كل الحرص على صفاء ونقاء الفكرة الإسلامية.

 

فالغرب في مشروعه لتفكيك الإسلام وتوليد المسخ، وفلسفة حلاق جزء من مشروعه، يسعى لتشويه المسلمين فكريا ومسخهم حضاريا وإن لم يكن بمجموعهم ففئة عريضة منهم تفي بالغرض لتوظيفها كطابور خامس تعمل من داخل الأمة، مشوهة فكريا مستلبة حضاريا محسوبة على فسطاط الغرب وكفره وضدٌّ للإسلام وأهله. وأخطر ما في هذا التشوه الفكري والاستلاب الحضاري هو التعامل مع المنتج الحداثي العلماني المصاغ بمفردات إسلامية كشق من الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهنا تتضخم المعضلة وتتفاقم الكارثة المعرفية.

 

فالقضية أبعد من كتاب "الدولة المستحيلة" وأكبر من كاتبه وائل حلاق، وإن كان له ولكتابه النصيب الأوفر في نصب الفخ وتوريط الكثيرين من بسطاء المثقفين، فالقضية تسويق لفلسفة دين وضعي ونسق معرفي وصناعة لمثال ونموذج مفاده أن الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية ليسا حكرا على أهل الدار من المسلمين المؤمنين بالإسلام والعالمين به والعاملين به وله، وأقبح من ذلك هو تجاوز أصول وقواعد الإسلام المعرفية وعلومه الحاكمة والناظمة لفهمه وتوليد معارفه، وأشنع منها اعتماد أصول وقواعد ومعارف الحداثة الغربية العلمانية لمسخه وتشويهه وتقديم هكذا مسخ كفهم متجاوز لحدوده ودائرته، بل تصديره وقذفنا به كجزء من فكرنا وثقافتنا ومادة دراستنا وتثقيفنا. وهي لعمري قمة استغبائنا وسحق ومحق تفكيرنا وطمس هويتنا الإسلامية المتفردة المتميزة!

 

معشر العقلاء! لا بد من تنبيه وتحذير، فموقف المسلم من الثقافات الأخرى، كون الثقافات خاصة ومطبوعة بعقائدها، أنه لا يجوز له التأثر ولا الانتفاع بها ولا اتخاذها مصدرا لتصوراته وأحكامه، فكيف بفلسفة تسعى لنسف حقيق وحق إسلامه العظيم واستبداله بمسخ اجتهادات فلاسفة الغرب ومفكريه، وما حلاق إلا واحد منهم؟! أما عن مطالعتها والتزود بها فيكون لمن عنده الأهلية لفهم كنهها وإدراك مراميها لإيجاد الحركة الثقافية التي يقتضيها حمل الدعوة، لجدال أصحابها فيها؛ لبيان عوارها وفسادها، ثم جعل الثقافة الإسلامية تؤثر فيهم، ويتحقق حقيق إخراجهم من الظلمات إلى النور.

 

معشر العقلاء! دعوكم من حلاق وفلسفته ولا تنخدعوا بعناوينها؛ ما كانت إلا إفكا آخر قامت ماكينة العلمانية بتذويبه وإخراجه في قالب فلسفي لتنطلي الحيلة ويسقط بعضنا صرعى فتنة في الدين وخديعة فكرية.

 

معشر العقلاء! لو قرأ حلاق الإسلام بعين الباحث عن الحقيقة لاهتدى لحقه وأسلم لربه واعتنق إسلامه العظيم كمن سبقه للرشد من بني ملته، ولكن قراءته لا تتعدى دائرة توظيف مفردات الإسلام في نشاطه الفلسفي وإنشائه المعرفي.

 

معشر العقلاء! لا خوف على هذا الدين فهو دين القوي المتين الذي تعهد بحفظه، والخوف كل الخوف هو خسارتنا نحن لمعركة الفكر وزيغنا عن صراط ربنا المستقيم وتفرق السبل بنا بين متاهات وضلالات فلسفة الغرب وثقافته عنوان كفره، وهو لعمرك الخسران المبين.

 

فالثبات الثبات والحرص كل الحرص على نقاء وصفاء دينكم واستقامتكم على أمر ربكم، واعلموا أن الغرب ما اقتحم عليكم حصونكم واستباح بيضتكم وحماكم إلا بفقد حامي حماكم والذابّ عن حياضكم؛ إمامكم وخليفة رسول الله ﷺ فيكم وجُنَّة الله لكم. ألا فبادروا، قبل انقطاع العمل وانصرام الأجل، لخير أعمالكم؛ إعلاء كلمة ربكم ورفع راية نبيكم ﷺ وعزة أمتكم بحمل هَمِّ هذا الدين والعمل لإقامة خلافته.

 

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مناجي محمد

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع