- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
انسحاب الجيش الفرنسي من مالي ومظاهرات تشاد ضد النفوذ الفرنسي
إحلالٌ وإبدال للاستعمار أم خلعٌ لنفوذه؟
بعد بروز أمريكا، في حلبة الصراع الدولي، بدأت تسحب البساط من تحت نفوذ الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، بعد أن نجحت في تحويل مؤتمر باندونغ في إندونيسيا عام 1955 لصالحها، ورفعت شعار حق تقرير المصير للشعوب التي ترزح تحت الاستعمار المادي المباشر، من بريطانيا وفرنسا. وقد نجحت أمريكا بصناعة حركات تحررية ودعمتها إلا أن فرنسا تحايلت على فكرة أمريكا، وأعطت استقلالا منقوصا، وظل جيشها يرابط في ثكنات الدول الأفريقية.
نقلت يورو نيوز أن باريس قررت في شباط/فبراير 2022 الانسحاب من مالي في أجواء من تدهور الأمن، على خلفية التوتر بين فرنسا والمجلس العسكري الحاكم في مالي الذي يتهمه الغربيون باستخدام مجموعة فاغنر، وكانت هيئة الأركان حذرت من هجمات دعائية، لمناسبة تسليم قاعدة غوسي، وقال الناطق الرسمي باسمها، اللواء باسكال إياني "إنه تم إعداد تقرير عن وضع المكان وتوثيقه، لحماية فرنسا من اتهامات محتملة"، وهو يشير بذلك إلى المشاعر المعادية للفرنسيين التي انتشرت في المنطقة وجعلت فرنسا موضوع حملات تشويه، على شبكات التواصل الإلكتروني. وقال اللواء إياني قبل شهر، "اتهمت القوات الفرنسية بالمشاركة في التهريب وتسليح الإرهاربيين وحتى ارتكاب انتهاكات".
وفي تشاد نقلت شبكة الميادين في 14 أيار/مايو 2022 أن مئات الأشخاص يتظاهرون في عاصمة تشاد، احتجاجا على وجود فرنسا في البلاد، ويتهمون باريس بدعم المجلس العسكري، وردد المتظاهرون هتافات ضد فرنسا "ارحلي"، "لا للاستعمار" وأحرقوا علمين على الأقل للسلطة الاستعمارية وخربوا عددا من محطات الوقود التابعة لمجموعة توتال رمز فرنسا.
لقد لعبت فرنسا دوراً بارزاً في صناعة الفقر في أفريقيا، وخاصة دول غرب أفريقيا، مثل أفريقيا الوسطى، والكاميرون والغابون وتشاد والنيجر وغيرها، فهي من أفقر دول أفريقيا بل يُعد أهل هذه الدول من أفقر الشعوب رغم ما تتمتع به هذه الدول من ثروات هائلة، فلم تتحقق لهم أبسط مقومات الحياة!
إن تأثير نظرة ديغول، عندما وصل إلى الحكم في فرنسا، وواجه صعود أمريكا، فأول ما فكر فيه، كيف يحافظ على مستعمرات فرنسا من أجل الطاقة؟ فمدت شركات فرنسا يدها إلى خيرات القارة السمراء؛ من يورانيوم النيجر وذهب الغابون ونفطها والفحم الحجري والألمونيوم والماس والبن والكاكاو وغيرها من ثروات القارة، بالإضافة إلى دعم النفوذ الفرنسي في المحافل الدولية، لذلك كانت عقلية ديغول ونفسيته، استعمارية بامتياز، وأن فرنسا لا يمكن لها أن تتنفس إلا برئتي أفريقيا، فاعتمد صيغة جديدة بعد مؤتمر باندونغ 1955، فمنح 14 دولة أفريقية استقلالها في عام 1960، إلا أن الجيش الفرنسي ظل موجودا، في شكل قواعد عسكرية، كما هو الحال في أفريقيا الوسطى ومالي وتشاد والغابون، إضافة إلى التدخلات العسكرية في تثبيت الحكام الموالين لفرنسا وفق خطة ديغول لسيطرته على مستعمرات فرنسا، وتدبير الانقلابات العسكرية، وتمويل الحركات المسلحة والاغتيالات السياسية. لقد منح ديغول الاستقلال لعدد من دول أفريقيا، مقابل اتفاق أمني مع فرنسا، اتضح فيما بعد، أنه يشمل بنودا غير معلنة، في مقدمتها وضع نسبة 85% من مدخلات هذه الدول تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، بوصفه نوعا من المقابل للبنية التحتية التي ادعى الاستعمار تشييدها، وقد جلبت فرنسا وفق هذا الاتفاق 500 مليار دولار عاماً بعد آخر، وأعطى الاتفاق فرنسا الحقوق الحصرية على أي مواد خام تكتشف في أراضي مستعمراتها السابقة، كما منح الشركات أولوية في أنشطة اقتصادية في هذه البلاد واحتكرت وحدها عقود التدريب العسكري، وحقوق الأنشطة الأمنية. (الجزيرة نت).
إن فرنسا منذ دخولها أفريقيا، وبقائها في غربها، وفق منهجها الفاسد، التي تعتز به من مفاهيم ومرتكزات المبدأ العلماني القائم على أساس النظام الرأسمالي، فصل الدين عن الحياة، تلك العقيدة التي أنتجت مفهوم المنفعة، أولا وأخيرا، فظلت فرنسا تمارس عملية النهب الممنهج منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية، مرورا بكل رؤسائها، مخلفة أسوأ عملية نهب لخيرات أفريقيا، وبناء مجد خاوٍ من كل القيم أشبه باللص الذي لا يرى في سرقته حرجا!
إن فرنسا أبقت شعوب هذه المناطق متخلفة لا قيمة لها، وهي تنظر إليها نظرة الوصي، بل إن المفكرين الغربيين ورؤساء هذه الدول الغربية ما قادهم إلى هذه الجريمة في حق الشعوب، إلا نظرتهم غير الإنسانية، فمثلا الفيلسوف الألماني هيجل والتي سميت رؤيته الهيغيلية نسبة له قال: "إن العبودية هي خاصية أفريقية ومصير محتوم للأفارقة، وإن العبيد الأفارقة الذين اقتيدوا قسرا إلى الغرب لم يكونوا ليصبحوا أفضل حالا لو ظلوا في بلادهم". وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اجتماع يتعلق بالهجرة إلى أمريكا واصفا أفريقيا بأنها "بؤرة قذرة"، وتحدث في مناسبة أخرى عن أفريقيا قائلا: "إن الأفارقة بحاجة إلى الاستعمار مائة عام أخرى، وإنهم لا يعرفون شيئا عن الحكم والقيادة بسبب كسلهم وغبائهم وهوسهم بالطعام والجنس والعنف".
ليس هناك وصف دقيق توصف به فرنسا والدول الغربية إلا أنها دول ناهبة طفيلية ماصة لدماء الشعوب، لا تعرف الإنسانية التي تتشدق بها، وأنها ارتكبت أكبر جريمة في حق الشعوب وأنها تمارس أدواراً قذرة.
إن شركات النفط الفرنسية، لها تاريخ طويل، في دعم الحكام المستبدين، فشركة إلف الفرنسية لها فضحية مدوية في تسعينات القرن الماضي حين صرفت ما يقارب 300 مليون يورو في عملية تزوير واسعة استحوذ فيها رجال أعمال، وساسة فرنسيون وزعماء أفارقة على رشاوى، الأمر الذي أدى إلى تصفيتها فتحولت إلى شركة توتال.
إن تظاهرات تشاد تطالب برحيل القوات الفرنسية من البلاد، وقد وصف أحد الناس في استطلاع للبي بي سي، بأن فرنسا وراء الفقر وتأجيج الحروب الأهلية وحرمانهم من ثرواتهم الطبيعية، وأبلغ دليل على ذلك أن تشاد تتمتع بالبترول والأراضي الزراعية الشاسعة والثروة الحيوانية إلا أن بها نسبة عالية من الأمية وتخلفاً في مجال الطب حيث تردى العلاج في المستشفيات بحيث يلجأ معظم أهل تشاد إلى إقليم دارفور في السودان رغم أن الأخير نفسه يعاني الأمرين!
أما أفريقيا الوسطى، فدخول الشركات الأمنية التي تنشر الآلاف من الجنود المرتزقة الذين تكمن مهمتهم في حماية مصالح الشركات الدولية، والأنظمة الداعمة لها، وهي الآن تتوسع توسعا أخطبوطيا مثل شركة فاغنر وغيرها من الشركات الأمنية الأخرى، إنها جريمة جديدة، وأسلوب استعماري جديد، فالاستعمار يغير جلده.
من الواضح أن سياسة الإحلال والإبدال هي القائمة الآن، وليس هناك أمر خلع للاستعمار من جذوره، والدليل على ذلك أن الذين يتصدرون المشهد الإعلامي، من كتاب ومدونين، وقنوات فضائية، مثل الجزيرة الوثائقية، التي بثت فيلماً وثائقياً من عدة حلقات، تحت اسم "أفريقيا القارة المستباحة"، لم يقدموا حلا جذريا للخروج من مأزق الاستعمار، ولا يتوقع منهم ذلك بتاتا رغم الجرأة في فضح أعمال الاستعمار التي تطاولت، على مر العقود، لذلك يظل الاستعمار باقياً، بل يغير جلده كلما فضح أو أحس بأن هنالك تململا من الشعوب، فتأتي عملية امتصاص الحماس، وسياسة التنفيس لمشاعر الناس والقضاء عليها، قبل أن تتبلور إلى فكرة مبدئية تقتلع الاستعمار من جذوره.
إن فرنسا العلمانية، ودول أوروبا، وبريطانيا وأمريكا، وروسيا، لا ينفع معهم كشف مخططاتهم الاستعمارية فحسب بل لا بد من تبيان الفكر الرأسمالي، الذي هو أساس الفساد والظلم، ثم إن المبدأ الرأسمالي، يحمل في أحشائه مفهوم النفعية وأسلوب الترقيع فهو أخطبوطي فاسد.
إن قضية أفريقيا ليست ممثلة في التحول الديمقراطي، كما يرى البعض من الكتاب الذين تفننوا في وصف الواقع، وكشف جرائم فرنسا، ولا تحريك المظاهرات ضد فرنسا لصالح أمريكا كما تفعل الآن في صياغة مطبخها القطري مع المعارضة التشادية، وهذا مؤشر للمظاهرات التي اندلعت مؤخرا في العاصمة التشادية أنجامينا حيث تزامنت مع مفاوضات الدوحة مع المعارضة التشادية.
فالقضية أكبر وأخطر وأعظم، وهي أن هذه الشعوب قد حرمت تماما من حقها في الحياة، جيلاً بعد جيل، فظلت حياتهم أشبه بالحياة البهيمية، بدلا من العيش والتفكير بأنهم بشر خلقهم الله تعالى، وأنهم يستحقون الحياة الكريمة وأن يعرفوا الله حق المعرفة ليعبدوه حق العبادة، فالغرب غيبهم عن وظيفتهم الأساسية، حتى يعرفوا شأنهم ويدركوا من الذي أوصلهم إلى هذا الدرك الأسفل من الحياة البهيمية.
إن رفع وعي هذه الشعوب في معرفة حقوقهم والمحافظة على ثرواتهم، وأنهم سُلبوا إرادتهم، حتى في التفكير، هو واجب المسلمين لبث الوعي بينها، وذلك بفضح الأنظمة القائمة، التي تتآمر وتخون شعوبها، من أجل كرسي معوجة قوائمه، وحفنة من دولارات، وأن الغرب لا يرغب في وجودهم يوما واحداً، بل من أجل ثرواتهم العظيمة فاقتادتهم أمريكا، في صفقة العبيد، وجاءت فرنسا ناهبة للثروات، ولسان حال دول الغرب يقول بأن هذه الشعوب لا تستحق هذه الثروة، فما أعظم هذا الجرم الشنيع الذي تمارسه فرنسا، منذ بروزها كدولة مستعمرة بامتياز!
إن واجب المسلمين وهم يحملون مبدأ واضح المعالم؛ في كل شي بدءا برفض الظلم ليعطى كل ذي حق حقه. فما أعظم الإسلام العظيم وما أعظم حاجة العالم اليوم إليه! ولا مخرج للبشرية من كابوس ظلم المبدأ الرأسمالي العلماني الفاسد وهؤلاء الظلمة الذين صنفوا العالم إلى أول وثان وثالث، والبشرية إلى بشر وعبيد، وبشر وحثالة بشر، فكيف بهؤلاء يتحكمون في العالم؟! إنه الشر بعينه، والفساد وأسه، فلا بد من إزاحتهم اليوم قبل غد وذلك بقيادة العالم وفق الإسلام العظيم تقوده دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وإنها لكائنة بإذن الله تعالى لتبرهن للعالم العدالة، ويعرف الناس مدى الظلم والفساد الذي وقع عليهم من دول الكفر والظلم والفساد، فلا بد من إزاحة هذا الكابوس إلى الأبد بإذن الله تعالى، وذلك بإعلان دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الشيخ محمد السماني – ولاية السودان