- الموافق
- 1 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
ما علاقة الاستفتاء والدستور في تونس بالأمل في التغيير الجذري؟
تعيش تونس منذ عقود على وقع أزمات متعددة ومتراكمة، ما جعل المجتمع داخلها أشبه بالقدر الذي يغلي حتى يفيض، فكانت انتفاضة أواخر 2010 نتاجا لحالة الغليان، وكانت واضحة في مطلب إسقاط النظام، وقد اشرأبت الأعناق حينها نحو تغيير جذري حقيقي ينهي المأساة التي ظلت تعيشها تونس في عهدي بورقيبة وبن علي، ويفتح الباب على مصراعيه نحو إمكانية انفلات تونس من قبضة النظام الرأسمالي العالمي المتوحش.
ولمّا كان الإسلام متجذرا في هذا البلد وحاضرا بقوّة في جل التحركات الشعبية وجل النقاشات حول الهوية والدستور ونمط المجتمع، بحيث برز ذلك في مناسبات عدّة ولم يعد يخفى على قوى الغرب المتربصة بالثورة، جيء بورقة الإسلام المعتدل، وتم إيهام الناس بانطلاق قطار تحقيق أهداف الثورة بعودة الإسلاميين إلى المشهد، وبأن كسب المعركة السياسية بوصول إخوان تونس إلى سدة الحكم، سيؤدي بالضرورة إلى كسب المعركة الاقتصادية وإلى دوران عجلة التنمية. وهكذا، طُلب من الشعب الثائر أن يعود أدراجه ويترك للقيادات السياسية مهمة حراسة الثورة وحمل لواء تحقيق أهدافها!
ثم كان فشل هذه التجربة في الحكم أمرا حتميّا لا مفرّ منه، وذلك لسببين:
أولا: غياب برنامج سياسي ذاتي يستند إلى الإسلام في أصوله وفروعه عند هؤلاء، بل كان برنامج الإسلاميين هو الاستناد إلى دستور هجين يقرّ مشاركة العلمانيين الحكم والحفاظ على النظام الرأسمالي نفسه مع وضع بعض مساحيق التجميل (الإسلامية) على غرار إحداث صندوق الزكاة ودعم السياحة الإسلامية والنزل (الحلال!).
ثانيا: دفع كل القوى العلمانية في البلاد وتحرك الدولة العميقة باتجاه استعادة النظام لقبضته بعد أن تصدع نتيجة لتغيير رجالات النظام السابق.
ولما اشتد ضعف الوسط السياسي الجديد الموالي لبريطانيا التي أرادت فرض حالة الاستقطاب الثنائي بين طرفي السلطة وشقيّها (الإسلامي والليبرالي)، وصار سفراء بريطانيا يباشرون الحكم ويمارسون الوصاية بشكل فجّ في حين ترك لأشباه الحكام المهمات الإدارية، استطاعت فرنسا أن تطل برأسها في تونس عبر ورقة قيس سعيد، الذي ظنت بريطانيا أنها ستنجح في عزله في قصر قرطاج بعد تطويقه برجالاتها، ليحتدم الصراع الأوروبي على تونس، وتتزايد أطماع أمريكا على خلع أبواب الشمال الأفريقي.
إن العداء الغربي للإسلام والمسلمين، لم يعد خافيا على كل ذي لب وبصيرة، وهو ليس وليد اليوم، بل هو ممتد في التاريخ بدءاً بالحروب الصليبية ومرورا بمعاهدة وستفاليا التي وحدت قوى الغرب ضد الدولة الإسلامية، وإن فرنسا هي رأس حربة في هذا العداء الصليبي، ولذلك تعتبر نفسها وصيّة على حضارة الغرب، وصاحبة فضل على دول أوروبا بوصفها هي التي جاءت بالأفكار العالية والقيم الرفيعة للحضارة الغربية كالحريّة والعدالة والمساواة ونظرية العقد الاجتماعي، ولذلك فإن ضعفها أمام تفرد الأمريكان بقيادة العالم لم يمنعها من خلق وضعية سياسية جديدة في تونس، أجبرت الجميع على إعادة ترتيب الأوراق وطرح السؤال حول مدى جدوى الاستمرار في المراهنة على ورقة الإسلام المعتدل خاصة بعد تآكل رصيدها. حصل ذلك بعد أن دقت فرنسا ناقوس الخطر وأعلنت عبر وكيلها عن وجود خطر داهم يتهدد تونس وجيشها وشعبها ونمط عيشها، وهو ما يستوجب إعادة صياغة دستور جديد للبلاد.
وهي تدرك جيدا، أن وجود الإسلاميين في السلطة لم يمنع من إنشاء الجمعيات القرآنية وحلقات التعليم ومن نشر الثقافة الإسلامية بين الناس، ولم يمنع حزب التحرير من القيام بنشاطه وحمل دعوته بين الناس، وبعبارة أخرى، لم يمنع الناس من تناول الأحداث تناولا سياسيا ووضعها في ميزان الإسلام، ومن تنامي الوعي الإسلامي داخل شعب مستمر في الغليان، ولذلك وجب في نظرهم إعلان الحرب على (الإسلام السياسي) قبل فوات الأوان.
فالناظر بعمق في المسار السياسي الذي رُسم بعد 25 تموز/يوليو في تونس، يجد أن دول الغرب بزعامة أمريكا تتظاهر بالقلق والانشغال من انتهاك حقوق الإنسان خوفا على الديمقراطية، في الوقت نفسه الذي ترسل فيه جنودها تحت مظلة أطلسية لقتل المسلمين الأبرياء في كل مكان.
هذا الغرب الذي يسكت عن جرائم بشار والسيسي وابن سلمان في حق شعوبهم، ويغمض أعينه عن جرائم قتل المسلمين بدم بارد في تركستان الشرقية وميانمار والهند وفلسطين وغيرها، لا يلبث إلا أن يعبر عن عميق انشغاله بمستقبل الديمقراطية في تونس، مع كل خطوة سياسية يخطوها قيس سعيد في اتجاه استعادة النظام لقبضته، وهي المهمة التي فشل الحكام السابقون في تنفيذها.
اليوم، يراد ربح الوقت ريثما تنخرط القوى الديمقراطية في تونس في المسار الإصلاحي المزعوم، وريثما يتم تركيع المعارضة الديمقراطية لأجندة قيس سعيد الذي لم يعد له من دور فيها سوى ترجمة التوافقات الغربية غير المعلنة إلى مراسيم رئاسية تمنحه مزيدا من الصلاحيات، طمعا في تكرار سيناريو التسعينات وإعادة إنتاج مجزرة سياسية جماعية بحق الإسلاميين المعتدلين ومن سار في فلكهم، حتى صار وجود الرئيس في الحوار الوطني أمرا مطروحا على طاولة النقاش داخل صفوف المعارضة التي تسعى إلى لملمة شتاتها، في الوقت الذي سارعت فيه بريطانيا إلى القبول مجددا بأحمد نجيب الشابي لتزعّم المعارضة السياسية في تونس، ليعود مجددا لاحتضان الإسلاميين، وكأننا نعيش أيام بن علي.
الاستشارة الإلكترونية والدستور الجديد والاستفتاء الشعبي، هي من أكبر المهازل السياسية الحاصلة بعد الثورة، وهي تفوح برائحة تزوير الإرادة الشعبية، ومع ذلك يستمر الرئيس في تثبيت أرضية وجوده السياسي وعلمنتها إلى حد النخاع تحت عنوان استعادة الدولة، محاطا بهالة إعلامية تحارب الإسلام وأحكامه؛ من جهة خضوعا للأجندة الصهيونية، وتروج لفكره ومشروعه (على فرضية وجود فكر) من جهة أخرى، في حين ظل وجود الإسلاميين في المشهد ينحسر يوما بعد يوم في ظل بحثهم عن غطاء سياسي بديل لحركة النهضة، وصاروا عاجزين عن التحرك وحشد الناس وتجييش الشارع بوصفهم الحزبي مع أنهم كانوا بالأمس القريب من أكبر الأحزاب الحاكمة في البلاد! بل صاروا يتخيرون عناوين وأشكالاً جديدة لتحركاتهم على غرار "مواطنون ضد الانقلاب" و"حركة تونسيين من أجل الديمقراطية" و"جبهة الخلاص الوطني".
حتى اتحاد الشغل نفسه صار مهددا بسحب لقب "القوة الأولى في البلاد" وإسنادها للرئيس قيس سعيد.
أما الغاية من دفع الإسلاميين نحو هذا النفق المظلم وإبراز فشلهم في مواجهة "الانقلاب" مع الاستماتة في إقصاء دعاة الإسلام المبدئي من المشهد وملاحقتهم، فهو نشر اليأس والإحباط في صفوف أبناء الشعب شبيبة وشيبا، وقتل الأمل في التغيير الجذري وضرب المشروع الحضاري الإسلامي بنسب الفشل إليه وجعله عنوان الأزمة استجابة لرغبة ماكرون، بحيث تتحول المحطات الإعلامية إلى أبواق دعاية للديانة الإبراهيمية التي تصهر الشعوب في بوتقة التعايش الديمقراطي وتجعلهم لقمة سائغة في أيدي الرأسمالية العالمية، مع أنها مصدر كل الأزمات التي يعيشها عالم اليوم.
إنه لا سبيل للتصدي لهذا المخطط الشيطاني الذي اجتمعت عليه قوى الكفر، وتنفذه ماكينة الدولة العميقة الموالية في مجملها للإنجليز في تونس، إلا بالوعي على حقيقة الأزمة، من كونها أزمة نظام فاسد يحاول تجديد ثوبه بعناوين جديدة ودساتير جديدة، وبأن التغيير الجذري لن يتحقق على أيدي عبيد الرأسمالية وحملة لواء الديمقراطية ممن يتخذون اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين، وإنما سينجزه في الواقع دعاة التغيير الجذري على أساس الإسلام، ممن يستبشرون بوعد الله سبحانه وبشرى نبيه ﷺ بخلافة راشدة على منهاج النبوة تكنس أنظمة الملك الجبري التي نعيشها منذ هدم دولة الإسلام. بهذا فقط، يسقط النظام، وتعود تونس إلى سالف عهدها، منارة للعلم وتاج شمال أفريقيا وتعود إلى امتدادها التاريخي والجغرافي والحضاري الطبيعي ضمن خير أمة أخرجت للناس. ولهذا يعمل حزب التحرير ويقدم طرحه ورؤاه للناس عسى أن يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِين * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. [سورة المائدة].
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
م. وسام الأطرش – ولاية تونس
وسائط
1 تعليق
-
فتح الله عليكم وبكم وبارك أعمالكم ونفع بكم