- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مبادرة اليونيتامس
بين حبائل المستعمر وطوق النجاة
في الثامن من كانون الثاني/يناير 2022م، أطلق المبعوث الأممي، رئيس بعثة اليونيتامس للسودان، الألماني الجنسية فولكر بيرتس مبادرة لجمع الفرقاء السياسيين في السودان إلى الحوار للخروج من الأزمة السياسية الحالية، وتهدف هذه المبادرة في نهايتها لاستعادة مسار التحول الديمقراطي وصولا لحكم مدني كامل في نهاية المطاف.
لقد وجدت هذه المبادرة فور الإعلان عنها ترحيبا كبيرا من دول عدة كأمريكا وبريطانيا ومصر والسعودية والإمارات ومنظمات دولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية.
إلا أن الوسط السياسي في السودان بدا منقسماً إلى مؤيد للمبادرة، ومرحب بها بشروط، وأيضاً رافضين باعتبارها شرعنة لانقلاب البرهان. أما المحللون والمراقبون للوضع فقد اختلفت رؤاهم حولها بين مشكك بفاعليتها لفك حالة الاحتقان للمشهد، وبين متفائل باعتبارها ستحدث ثقبا في أفق الانسداد السياسىي. على العموم هنالك العديد من الأسئلة المطروحة في الساحة التى تحتاج إلى إجابات بخصوص هذه المبادرة، ولكن قبل الخوض في تفاصيل البحث وحتى نضع الأمور في نصابها، نحتاج أولا إلى تثبيت بعض الحقائق المهمة التي ستعيننا على رؤية الواقع بشكل أوضح.
أولاً: إن جوهر الصراع اليوم في السودان ليس صراعا بين العسكر والمدنيين وإن كان قد تمظهر بذلك، وإنما هو صراع دولي على المصالح بين الدول الاستعمارية، وإن أدوات هذا الصراع هي الحكومات العميلة المرتبطة به والوسط السياسي المضبوع بثقافة الغرب الكافر، وإن الشعب هو وقود هذا الصراع. وما يؤكد هذا الأمر هو التدخل السافر من هذه الدول عبر المبعوثين والسفراء في إدارة شئون البلاد.
ثانيا: بما أن الصراع هو صراع دولي تديره الدول الكبرى أمريكا وبريطانيا من خلف الكواليس، فلا يمكن فهم تحركات الساسة والقادة بمعزل عن تحركات تلك الدول ومصالحها، لأن هؤلاء الحكام والسياسيين هم ظل هذه الدول وبيادق بيدها تحركهم كيف تشاء.
فأمريكا هي من تدعم العسكر وتقف وراءهم وإن كان موقفها المعلن خلاف ذلك، فالعسكر قاموا بعملية الانقلاب بعد ساعات من لقائهم بالمبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان، وكذلك لم تعتبر أمريكا ما قام به البرهان انقلابا حتى لقد جاء على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض نيد برايس: "إن أمريكا لا تعتبر ما قام به البرهان انقلابا عسكريا وإنما سيطرة عسكرية، فكلمة انقلاب تحتاج إلى تقييم قانوني".
وأما قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) ونواته تجمع المهنيين، فإن بريطانيا هي من تقف خلفهم، بل وأمامهم أحيانا، فقد كانت ردة فعلها قوية على إجراءات البرهان، فقد صرح سفيرها بالخرطوم جايلز ليفر "أن بلاده تدين بشدة هذا الانقلاب"، بل ظهر بنفسه في مقطع فيديو بثته صفحة السفارة البريطانية في الخرطوم أدان فيه الانقلاب وحمل العسكر مسئولية المعتقلين ومسئولية إراقة الدماء. ويؤكد ما ذهبنا إليه تحركات السفير البريطاني السابق عرفان صديق في الاعتصام ولقاءاته المشبوهة مع قادة الحراك، وهو الذي استشاط غضبا عندما كشفت جهات خطاب حمدوك للأمم المتحدة لإرسال بعثة سياسية للسودان، كما أن بريطانيا هي من قدمت مشروع القرار للأمم المتحدة برفقة ألمانيا وغيرها. وهذا غيض من فيض لا يسع المقام لذكر المزيد لبيان عمالة الطرفين كل لسيده، وكل طرف يستخدم أدواته المحلية ويحركها من خلف الكواليس.
ثالثا: إن ما وصل إليه حراك أهل السودان، كان ولا يزال، نتيجة لغياب الوعي السياسي لدى الأمة، الوعي الذي يعني النظر للقضايا والأحداث والأمور من زاوية محددة، وهي زاوية الإسلام باعتباره عقيدة أهل البلد، لأن الوعي هو ما يعصمها من هفوات الغفلة والتضليل السياسي، وأن قمة هذا الوعي هو تحديد عدو هذه الأمة، وهم الكفار المستعمرون، فلا خير يرجى منهم ولا من أعوانهم وعملائهم.
فبعد استصحاب هذه الحقائق ووضعها نصب أعيننا، سنعيد قراءة المشهد، فنقول:
إن الباعث لهذه المبادرة هو حالة الاحتقان السياسي الحاد الذي وصلت إليه البلاد، هذه الحالة التي بدأت بشكلها الحالي منذ إجراءات الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، حين قام البرهان بانقلاب عسكري أطاح بالمدنيين من الحكم، وأعلن حالة الطوارئ وجمد مواد من الوثيقة الدستورية، تلك التي وقعها مع قوى إعلان الحرية، والتي بموجبها تأسست شراكة حكم الفترة الانتقالية. فبعد هذه الإجراءات انفجر الشارع مجددا معيدا المشهد إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل توقيع الوثيقة في آب/أغسطس 2019.
وبعد شد وجذب كبيرين أدرك العسكر أن الأمور لن تهدأ ولا يمكن استمرار الأوضاع بهذا الشكل، فأوعزت أمريكا للعسكر بإعادة حمدوك للمشهد لتهدئة الأوضاع، حيث التقت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في بقادة البلاد "وحثتهم على الإفراج عن المسئولين الحكوميين والسياسيين المعتقلين بعد فرض الإجراءات الاستثنائية، وإعادة عبد الله حمدوك إلى منصبه"، وبالفعل بعد خمسة أيام أعلن عن الاتفاق السياسي الموقع في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 بين البرهان وحمدوك وعاد الأخير بموجبه رئيسا للوزراء، لكن هذه الخطوة لم تفلح في تهدئة الشارع الذي اعتبر حمدوك خائنا ويعمل تحت إمرة العسكر، ورفع شعارات ثلاثة؛ لا شرعية ولا شراكة ولا تفاوض، فكان لا بد من إيجاد مخرج آخر.
وتحت ضغط الشارع وبإيعاز من بريطانيا أعلن حمدوك في بث متلفز في 2022/01/02 عن استقالته رسميا بعد أن كان يلوح بها لفترة، الأمر الذي أزم المشهد أكثر فأكثر، ما زاد الضغط بصورة أكبر على جنرالات الجيش عملاء أمريكا.
وبالرغم من محاولة العسكر ترويض الشارع بالقوة، ذلك الأمر الذي ظهر جليا في التعامل الدموي من الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين في المواكب، حيث أعملوا آلة القمع العسكرية التي راح ضحيتها قرابة الـ65 قتيلاً حتى الآن - بين 25 تشرين الأول/أكتوبر حتى 13 كانون الثاني/يناير - إلا أنه رغم ذلك لم تخف حدة المظاهرات، بل زادت وتيرتها، فأصبح الوضع متدهوراً، فالعسكر رغم انفرادهم بالسلطة وسيطرتهم على مقاليد الأمور، إلا أنهم لم يسيطروا على الشارع، ولم يستطيعوا تكوين حكومة ولا الإتيان برئيس وزراء، ناهيك عن مجلس تشريعي أو إجراء انتخابات صورية مبكرة تعطيهم الشرعية.
ومع استمرار الوضع بهذا الشكل ودخول المشهد في نفق مظلم، كان لا بد من تحرك أمريكا لإخراج العسكر من مأزقهم، فقد صدر بيان من دول الترويكا (أمريكا وبريطانيا والنرويج) في 2022/01/04م، صرحوا فيه "لن تدعم دول الترويكا والاتحاد الأوروبي العمل الأحادي الجانب لتعيين رئيس وزراء جديد أو حكومة معينة دون مشاركة مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة المدنيين. ولتجنيب مثل هذه النتيجة أي إدخال الدولة في صراع، نحث بشدة كافة الأطراف المعنية على الالتزام بحوار فوري بقيادة السودانيين وميسر دوليا"، وبعد هذا البيان بأربعة أيام أعلن فولكر عن هذه المبادرة.
ومن تدبر كل هذه الأمور نجد أن الهدف من المبادرة هو إلقاء طوق النجاة لعملاء أمريكا بقدر أكبر، وكذلك لعملاء بريطانيا، فالطرفان يسعيان للتهدئة والحوار، وما دل على ذلك، هو ما رشح من أخبار عن جلسة مجلس الأمن غير الرسمية، وذكرت مصادر أن فولكر قد أجاب عن تساؤل بخصوص نجاح المبادرة، قائلا "إن الطرفين نفسيهما يريدان مفاوضات غير مباشرة للمساعدة في حل الأزمة".
فالمبادرة بالنسبة للعسكر هي السبيل لفك الخناق عنهم وتخفيف ضغط الشارع عليهم، وبدرجة أكبر إضفاء الشرعية على موقفهم الراهن، باعتبارهم سلطة معترفاً بها من الأمم المتحدة وليست سلطة انقلابية.
أما بالنسبة للمدنيين فهم يدركون أنهم لن يستطيعوا الجلوس على كرسي الحكم عبر المواكب ولو استمرت الدهر كله، فالمواكب رغم استمراريتها، لكنها فقدت زخمها ودخلت نفق الروتين، فاستمرارها يسبب الإحباط واليأس وتزيد نقمة الشارع بسبب تعطيل معاش الناس وغلق الطرق والجسور، وخاصة مع تلويح العسكر بشيطنة الحراك وجره خارج إطاره السلمي، وأحداث الخميس وتصريحات المستشار الإعلامي للبرهان أبو هاجة تعتبر منعرجا خطيرا ودليلاً على الشيطنة، فزيادة أمد المظاهرات تشكل خطورة على موقف بريطانيا وعملائها، لذلك فالمبادرة هي أيضا طوق نجاة لهم، وبدرجة أكبر هي مدخل لعودة بريطانيا لمشاركة أمريكا في الحكم مرة أخرى، وفق قاعدة خذ وطالب، وما حالة التصعيد الثوري والرفض المعلن للمبادرة من عملائها إلا لرفع سقف التفاوض، ومحاولة إضعاف موقف العسكر لنيل أكبر قدر من المكاسب السياسية.
والخلاصة، إن هذه المبادرة هي حل وسط بين بريطانيا وأمريكا للوصول إلى وفاق لحظي، حتى يرتب كل طرف أوراقه ويستعد للمعركة القادمة. ومن هذا كله نخلص إلى حقيقة واحدة مفادها، أن هذه المبادرة تمثل طوق نجاة للعملاء من أزمتهم، لكن مثل هذه المبادرات المجربة أثبتت فشلها في كل من اليمن وليبيا وسوريا وغيرها ولن تخرج البلاد من أزمتها الحقيقية، إذن فما المخرج؟
إن المخرج الحقيقي وطوق النجاة لأهل هذه البلاد بل والعالم أجمع، يكمن حصريا وقولا واحدا في الإسلام، تطبقه دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي أظل زمانها، والتي سوف تقطع أيدي الكافرين العابثين في بلادنا، وتخلص البشرية جمعاء من فكرة الاستعمار الخبيثة وتقضي على المبدأ الرأسمالي النتن الذي ذاقت البشرية جراء تطبيقه الويلات، وتنشر نور الإسلام وعدله في أرجاء المعمورة بعد أن ملئت ظلما وجوراً، فإلى ذلك ندعوكم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أحمد رشاد – ولاية السودان