السبت، 28 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/30م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

أمريكا ومأزق أفغانستان مؤشرات لانهيار الدولة الأولى في العالم

 

تجرعت أمريكا كأس الهزيمة المر في أفغانستان، ذلك البلد المسلم، إثر سقوط مدوٍّ لم تشهده من قبل، حيث جمعت كل عناصر السقوط والهزيمة من الناحيتين العسكرية، والاقتصادية.

 

إن الزمان قد استدار مجددا، يوم هزم الاتحاد السوفيتي عند احتلاله لأفغانستان عام 1978، فالحرب التي دامت قرابة عشر سنوات كاملة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى، فيما تم تشريد الملايين من الأفغان، لم يستسلم مسلمو أفغانستان فيها للاحتلال السوفيتي، بل خاضوا معارك ضارية ضده، أسفرت عن تمريغ أنف الروس في التراب الأفغاني، حتى اضطروا للخروج تاركين وراءهم إرثا من العداء المبدئي والتاريخي.

 

لعل مشهد انسحاب أمريكا من أفغانستان يبدو دراماتيكياً، حيث أعلن رئيسها جو بايدن، عن الانسحاب نهائيا، وقد بدأ بالفعل في الأول أيار/مايو 2021 على أن يكتمل بحلول 31 آب/أغسطس 2021، وتحت وطأة الانسحاب، بدأت أمهات المدن الأفغانية تسقط في يد طالبان، حيث غادرت أمريكا قاعدة باغرام ليلا، دون إخطار حليفها حكومة أشرف غني، وقد صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن، قائلاً "لا يجب على القوات الأمريكية أن تقاتل وتموت في حرب رفضت القوات الأفغانية خوضها". (القناة الفرنسية 24).

 

لقد غزت أمريكا أفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر عام 2001 للإطاحة بطالبان، بحجة إيواء أسامة بن لادن، وشخصيات أخرى في القاعدة، متهمة بهجمات 11 أيلول/سبتمبر، حيث أعلنها بوش الابن حرباً صليبية، وطلب من حكومة طالبان تسليم أسامة بن لادن، المتهم بتفجير برج التجارة الدولي في نيويورك، فرفضت طالبان تسليمه، فنادت أمريكا في العالم، وهيأت الرأي العالمي، ورسمت خطا طويل الأجل، لضرب الإسلام وأهله، تحت ذريعة (محاربة الإرهاب)، والقضاء على أي ترسانة موجودة في بلاد المسلمين عبر سياسة ممنهجة، فأوجدت مسوغا لمن لف حولها للقضاء على (الإرهاب)، وعينها على الإسلام للفتك به، فدخلت أمريكا أفغانستان محتلة، وسخرت حلف الناتو، وتبعتها بريطانيا وفرنسا ووجدت دعما لوجستيا، من باكستان وإيران ودول الخليج، حيث بلغت جيوشها 110 ألف جندي عام 2011.

 

فتخطط أمريكا ليخلو لها العالم كما الآن، ودون منافس دولي في المستقبل، كدولة أولى في العالم. فجعلت الإسلام مصنفا العدو الأول. فلا مجال أن يصبح الإسلام ديناً ودولة، تحت راية العقاب التي هي جامعة للمسلمين، دولة الخلافة، فأطلق بوش مقولته المشهورة (إما معنا أو ضدنا) وسماها حرباً مقدسة تحت اسم الصليب.

 

لقد صرفت أمريكا مليارات الدولارات على الجيش الأفغاني، من أسلحة وذخائر وتدريب، بالإضافة إلى الطائرات بدون طيار، والمروحيات وغيرها. ووفقا لدراسة أجرتها جامعة بروان الأمريكية التي تقع في بروفيدانس ولاية رود آيلاند في عام 2019 والتي رصدت عملية الإنفاق على الحرب في كل من أفغانستان وباكستان، فقد أنفقت الولايات المتحدة حوالي 978 مليار دولار، شملت تقديراتهم أيضاً الأموال المخصصة للسنة المالية 2020.

إن هذا الإنفاق لم يصنع نصراً، ولا بنى دولة، كما تريد أمريكا. فكانت النتيجة صفرا كبيراً لعدم وجود عقيدة قتالية للجيش الأفغاني. فعلام يدافع الجيش الأفغاني؟ عن الجيش الأمريكي أم يدافع عن حكومة أشرف غني العميلة؟ فكان مشوشا.

فجاء الانهيار المدوي، لأمريكا التي لم تصدق ذلك. ففي مساء يوم الأحد 15 آب/أغسطس 2021 تمكنت طالبان من السيطرة على القصر الرئاسي، في العاصمة كابل ومطار المدينة العسكري، بعد انسحاب لم يكتمل للقوات الأمريكية، التي احتلت أفغانستان، منذ عشرين عاما. حيث صرح جو بايدن قائلا "إن أفغانستان مقبرة الغزاة، وهو غير نادم من الانسحاب". (بي بي سي 2021/7/8).

 

فجاءت ردود الأفعال الدولية، من مفكرين وساسة أمريكيين، فقد وصف نائب الرئيس الأمريكي الأسبق مايك بنس، في مقال رأي بصحيفة (وول ستريت)، وصف الانسحاب بأنه إذلال للسياسة الخارجية أكثر من واجهته بلادنا، منذ أزمة الرهائن في إيران. (صحيفة سبوتنيك عربي).

 

تناولت مجلة ناشيونال إنترست، في مقال للأكاديمي مارك كاتز، تداعيات انهيار نظام حكومة أشرف غني وما قد يعنيه من متاعب قد تطال أعداء الولايات المتحدة. فكتب مارك كاتز، وهو أستاذ في العلوم السياسية، بجامعة جورج ميسون بولاية فرجينيا، وباحث غير مقيم، بالمجلس الأطلنطي، قائلا "إن العديد من المراقبين في الماضي والحاضر، تكهنوا بأن تسقط الأنظمة الاستبدادية الفاسدة الحليفة للولايات المتحدة، ما من شأنه، أن يؤدي إلى أن تحل محلها أنظمة مرعبة، أكثر استبدادا. وأضاف الكاتب، أن سقوط كابل يعد أمرا مؤلما للغاية للشعب الأفغاني على حد زعمه. مضيفا أنه يمثل دلالة، على فشل الجهود الأمريكية، التي استغرقت عقدين من بناء حكومة أفغانية، تكون أكثر جذبا من حركة طالبان". (الجزيرة نت).

 

وأضاف كاتب آخر، في مجلة نيويورك تايمز، هو الصحفي الأمريكي ديفيد سانجر مراسل نيويورك تايمز من البيت الأبيض، وشؤون الأمن القومي، في تحليل بالصحيفة قال في آخر مقالته: إن بايدن، سيدخل التاريخ، باعتباره الرئيس الذي أشرف على آخر عمل مذل، في التجربة الأمريكية في أفغانستان.

إن أمريكا بهذه الورطة التاريخية، وأسلوبها الفكري العقدي القائم على الاستعمار وإذلال الشعوب، وتسخير العالم لخدمتها، وفشل مبدئها الفاسد، من نظام حكم، ودعمها وتكريسها للأنظمة الفاسدة، من دكتاتوريات وممالك وغيرها، ونظام اقتصادي قائم على نهب ثروات الشعوب، عبر شركات عابرة للقارات، وصناديق مالية عالمية مؤسسة على الربا، ونظام اجتماعي قائم على فساد المرأة، وإطلاق الحريات وغيرها من المفاهيم الفاسدة، سوف يقود أمريكا حتما إلى مثواها الأخير.

 

إن الأصل في طالبان أن تعي الدرس، وتعمل على مراجعة منهجها، وذلك بالرجوع إلى أحكام الإسلام العظيم. حيث إن الإسلام عاصم كل من يتمسك به من الفخاخ السياسية القاتلة، وهي أخطر من الحرب أحيانا. فما لم تكسبه أمريكا في الحرب يمكن أن تكسبه في طاولة المفاوضات، والتي يمكن أن تفضي إلى الموت، وزوال المكاسب التي حققتها طالبان خلال العشرين سنة من عمر قتالها لأمريكا في أفغانستان.

 

وهناك نماذج قامت بها أمريكا، للكسب السياسي عبر التفاوض؛ ففي السودان حيث انضمت أمريكا لمنظمة إيقاد، تلك المنظمة التي تتكون من دول القرن الأفريقي، وأوعزت لعميلها عمر البشير، أن يطلب تدخل منظمة إيقاد لحل مشكلة جنوب السودان، فتبنت أمريكا المشروع، وأرسلت مبعوثها الخاص القس جون دانفورث لهندسة التفاوض، مع حركة قرنق المتمردة في جنوب السودان وحكومة السودان. فما لم يحققه قرنق في عشرين عاما، حققه في بضعة شهور، وأدى ذلك التفاوض إلى فصل جنوب السودان عبر فكرة حق تقرير المصير، وأنشئت دولة ذات صبغة نصرانية، وأبقت السودان تحت بذرة التفتيت. وهذه هي أمريكا.

 

كذلك تصرفت أمريكا في قضية سوريا بأسلوب خبيث حيث دعمت المعارضة، وعندما أدركت أن المعارضة ظهرها مكشوف في الميدان، دون حاضنة سياسية تدفعها إلى التأييد، أبقت بشار في السلطة، واستخدمت أسلوب سياسة الأرض المحروقة عبر روسيا، التي انخرطت بشكل قوي للحفاظ على شكل النظام العلماني في سوريا، فجاءت مفاوضات جنيف1 وجنيف2 وأستانة، إلا أن كل المفاوضات لم تجد قبولا في وسط الثورة السورية التي اتخذت شكلا مخالفاً لكل الثورات التي اندلعت في الشرق الأوسط، حيث نادت بلفظ النظام العلماني، وعدم قبوله، وتمسكت الثورة السورية بمبادئ الإسلام، وأبقت جذوة الثورة السورية قائمة.

 

فما تناولته التقارير الإخبارية، بأن طالبان عازمة على بناء دولة ذات حدود جغرافية أفغانية والجلوس مع قادة الحكومة السابقة العميلة لأمريكا، الملطخة بدماء المسلمين، والاستمرار في التفاوض مع أمريكا عبر مطبخ أمريكا الخليجي في الدوحة، وفتح خط مع قادة تركيا العملاء... إن هذه الأمور هي من الأخطاء السياسية القاتلة، ومخالفة شرعية تقود إلى الهلاك، وتظهر عدم الالتزام بالأحكام الشرعية، وعدم جعل الإسلام أساساً عند التفاوض إذا اقتضت الضرورة أن نتفاوض، وغيرها من الأحكام الشرعية الأخرى عند السياسة الداخلية والخارجية.

 

إن التودد إلى أمريكا وأوروبا لتطييب خاطرهم بعد إذلالهم في ساحة الوغى في آسيا هو الخسران المبين، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾. ففكرة التفاوض القائمة على التنازلات، هي سلاح فتاك تستخدمه أمريكا وتسخر كل إمكانياتها السياسية والجيوسياسية والإعلامية ومنظماتها الدولية لإنجاحها.

 

فطالبان قد امتلكت زمام المبادرة وأربكت المشهد العالمي وهي تتمتع بقبول طيب عند أهل باكستان وأوزبيكستان وطاجيكستان والشيشان. وإن وضع أفغانستان وما جاورها يؤهلها أن تعلن الخلافة العاصمة لها من فخاخ المفاوضات ودسائس المؤامرات الدولية.

 

إن الوعي السياسي لا يكتمل إلا بالوعي على فهم الواقع وإسقاط الأحكام الشرعية عليه، عندها تتضح الأمور المبدئية على أساس الإسلام العظيم.

 

إن تجارب أمريكا لضرب الإسلام وتشويه صورته، هي إحدى غايات أمريكا، وهي الصورة العالقة في أذهان الساسة الأمريكان، ومفكريها، لتكسب بعض الوقت، وذلك بسياقة الرأي العالمي ضد من يلتزم بأحكام الإسلام لتطلق العويل وتنادي العالم إعلاميا، لتسوقه لشيطنة الإسلام، ثم لتجعل بأس المسلمين بينهم شديداً. وذلك نتيجة للتغييب الفكري، والانحطاط، الذي تعيشه الأمة الإسلامية، لتلبس لهم الباطل بالحق، وهي تنأى بنفسها بعيدا، تتنفس الصعداء ليخلو لها العالم لتعيش الدولة الأولى في العالم.

 

فنماذج الحكومات التي صنعتها أمريكا لتحكم باسم الإسلام، زورا وبهتانا حاضرة في أذهان الناس، مثل حكومة الإنقاذ في السودان، وحكم الخميني في إيران، وأردوغان في تركيا، وركوبها للموجة، مثال حركة النهضة في تونس بقيادة الغنوشي، ومرسي في مصر فخلطوا مفاهيم الكفر وألصقوها باسم الإسلام العظيم زورا وبهتانا، فقادهم ذلك إلى التهلكة، وشوش على الناس الإسلام، وأصبح المسلم مشوشا فكريا، يغلب عليه التفكير السطحي ويصاب باليأس والهروب من التفكير العميق الذي يقوده إلى فهم الإسلام العظيم ليعمل من أجله.

 

إن الفرصة التي أتت ومرغت أنف أمريكا في التراب الأفغاني، وسكرة ذهولها أشبه بسيناريو خروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان في عام 1989 بعد عشر سنوات من القتال الدامي، وتمريغ أنف السوفييت، وإهانتهم في أفغانستان، وخروجها المذل منه، أعقبها انهيار المبدأ الشيوعي ودولته عام 1991 من حلبة الصراع الدولي.

 

فما أشبه الليلة بالبارحة؛ أن يكون خروج أمريكا، ذليلة مهانة، يتبعه خروج نهائي من حلبة الصراع الدولي، بصورة كاملة، وذلك بإعلان دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز.

 

﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

الشيخ محمد السماني – ولاية السودان

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع