السبت، 28 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/30م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الفساد والنظام والتغيير وواقع الدول، دراسة وتأمل

 

 


قد يقول قائل إن الفساد والإفساد في الأرض يكون بمخالفة شرع الله، وما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء نعرفه ويكاد الخطباء يكررونه على المنابر في كل خطبة حتى حفظناه، فما الجديد في الأمر؟


نعم إن مخالفة شرع الله هي التي تؤدي إلى الفساد والإفساد والظلم والفسق والطغيان في الأرض، وهذا الكلام على عمومه هو الصحيح والذي لا يعلى عليه. إلا أن موضوع المقالة اليوم هو بيان كيفية حدوث هذا الفساد في بلد ما وكيف أن وجوده يصبح قدرا يحير الحكماء ويعجز الخبراء ويفشل الحكومات ويحبط الشعوب فتصبح ذليلة وعاجزة وترتضي الفساد وتتعايش معه وتكيف نفسها في بيئته، الأمر الذي يؤدي إلى أن تصبح الشعوب نفسها فاسدة: أحزابها ووسطها السياسي ورجال الدولة كلهم مغمورون بالفساد وإن اختلفت درجات هذا الانغماس، فالكل يصبح فاسدا أو في طريقه لذلك، أو يصبح فاسدا دون أن يدري وهؤلاء كثر وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!


وهنا نعيد تكرار السؤال نفسه؟ لماذا الكل أو الغالبية منغمسة بالفساد رغم أن منهم الحافظ للقرآن والفقيه والمفتي المفسر والعالم والمفكر الإسلامي ومعلم اللغة وفقيهها؟ لماذا كل هذا الفساد وفي البلاد توجد المراكز الفقهية والفقهاء والأئمة والأطباء والخبراء والتقنيون والمعلمون والمهندسون وغيرهم من الكوادر والمختصين؟! لماذا يتغلغل الفساد رغم أن كل مؤشرات دوائر البحوث والفكر في العالم الغربي والشرقي تري بكل وضوح مدى تنامي حب المسلمين للإسلام ومدى تنامي التزامهم بإسلامهم وعودتهم له بحب وشغف مع مرور الوقت؟!


كان البعض وما زال يقول لو أننا نصلح الفرد سيصلح المجتمع، وكانوا يظنون أنه بزيادة عدد الأفراد الصالحين في المجتمع سيتغير الحال للأحسن وسيضمحل الفساد والإفساد في البلاد. ولكن الذي يحصل عكس ذلك تماما، فمنذ التسعينات والمسلمون بفضل الله يتوجهون بقوة لدينهم لدرجة أن وصل العديد من الجماعات الإسلامية في كثير من بلداننا للحكم وصاروا حكاما ولكن حال بلدانهم يصبح أسوأ وأسوأ وحال الشعوب أشد ضنكا وفسادا. وإذا بمقولة "أصلح الفرد يصلح المجتمع" قد أثبتت فشلها الذريع وعدم صدقها وأنها تخالف الواقع بل قد ثبت أنها فكرة خيالية بل فكرة مضللة.


ثم فهم آخرون أن المشكلة في بلداننا تكمن في النظام الذي يحكم البلاد، وهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولكنهم لم يفهموا كيف يغيرونه، فراحوا يغيرون الحكومة تلو الحكومة في البلاد حتى وصل الحال أن يبيت الشعب مع حكومة ويصبح مع حكومة أخرى، ولكن الحال من سيئ إلى أسوأ والفساد يضرب في أعماق حياتنا والحياة تشل عن الحركة لدرجة وصلت إلى عدم توفر أساسيات الحياة من طعام وشراب وعلاج ووقود كما في لبنان اليوم مثلا.


وهنا نعود للسؤال نفسه ولكن بصورة أخرى، النظام هو سبب الفساد والإفساد وليس قلة الأفراد الصالحين بل هم كثر، وحاولت الشعوب الانقلاب والتغيير إلى درجة أن أصبح تغيير الحكومات سهلاً كتغيير النعال - أعزكم الله - إذاً كيف يكون سبب الفساد هو النظام ولم يتغير الحال بتغيير الحكومات وبالتعديلات الدستورية التي تواكب كل حكومة جديدة، لا بل إن بعض هذه الحكومات كانت إسلامية وبأغلبية برلمانية؟


وللإجابة على هذا السؤال يجب العودة لفهم الواقع ابتداء، فصحيح أن الدين جاء ليغير الواقع، ولكن يجب معرفة هذا الواقع ابتداء لتتم معالجته المعالجة الصحيحة التي جاء بها الإسلام. فالإسلام جاء بعلاج لوقائع مختلفة وحسب نوع الواقع وضع العلاج. ولا يجوز عقلا ولا شرعا أن نعالج واقعا بمعالجة إسلامية لا تناسبه، تماما كما يحدث في الأمراض، فلا يجوز للطبيب أن يعالج أمراض السكري بأدوية النقرس، أو بأدوية الروماتيزم مثلا، لأن هذا سيفشل العلاج بل سيزيد حالة المريض سوءاً وتعقيدا ويزيد الطين بلة، وإن كان الطبيب نيته حسنة ولو كان إنساناً ملتزما وذا خلق إلا أنه خالف قواعد الطب في العلاج ولذلك حصل على نتائج عكسية. وهذا تماما ما يحدث إذا أرادت الشعوب أن تعالج واقعها الفاسد دون أن تفهم واقعها أولا وتشخصه تشخيصا صحيحا ثم بعدها تبحث له عن علاج في الإسلام.


وهنا نصل من جديد إلى سؤالنا الأول نفسه، ولكن بصيغة أخرى أكثر تفصيلا: ما هو واقع الدول القائمة في بلادنا الإسلامية؟ وهل هو واقع واحد؟ وكيف يمكن تغيير النظام فيها؟


وللإجابة على هذا التساؤل ينبغي تبيين أمر مهم للغاية وهو: تفصيل واقع الدولة عموما من ناحية السيادة والاستقلال. فلكل دولة في العالم أمور لا يمكنها أن تستغني عنها أبداً وهي تعتبر شرايين الحياة للدول، بدونها يتوقف قلبها ولا يعمل، وهي:


1. المداخل والمخارج لها من المطارات والمعابر والحدود البرية والبحرية إن وجدت.
2. الثروات وأهمها المياه والطاقة بأنواعها والزراعة.
3. الجيش والأمن.
4. الدستور والقانون.


هذه الأمور الأربعة تلزم كل دولة وبدونها لا تتشكل الدول وإن تشكلت تكون دولا كرتونية هزيلة آيلة للسقوط لأنها لا تملك أساسيات الحياة لشعبها، فيتركها الناس في أي فرصة تسنح لهم ويهجرونها، وتبعا لمن يسيطر ويتحكم بشرايين الحياة هذه في الدول تحكما فعليا لا شكليا، تتنوع الدول في العالم وتنقسم إلى ثلاث أقسام:


القسم الأول هو الدول المستقلة: وهي الدول التي لديها سيادة كاملة على هذه الشرايين داخليا وخارجيا أي تستطيع حماية ورعاية والحفاظ على شرايين الحياة فيها بنفسها أي بجيشها وشعبها وتستطيع أن تسير سياستها الداخلية والخارجية دون تدخل أو إملاء خارجي من دول أخرى. هذه الدول هي الدول المستقلة، أي الدول التي استقل قرارها السياسي داخليا وخارجيا لأنها سيطرت بقوة جيشها وشعبها وقانونها ودستورها على شرايين حياتها ولأنها سيرت مصالحها الخارجية مع الدول الأخرى بصورة مستقلة أي بدون إملاءات خارجية. وأمثال هذه الدول أمريكا والدول الأوروبية وروسيا مثلا.


القسم الثاني من الدول: الدول التي تدور في الفلك؛ وهي الدول التي لديها سيادة كاملة على هذه الشرايين داخليا فقط ولكنها لا تستطيع تسيير سياستها الخارجية بصورة مستقلة عن مصالح الدولة أو الدول الكبرى ولذلك تجدها في سياستها الخارجية تدور في فلك الدولة أو الدول الكبرى لعجزها عن تسيير شؤونها الخارجية بنفسها. أما داخليا فلها جيشها ودستورها وقوانينها وسياستها الداخلية المستقلة عن إملاءات الخارج عادة. وأمثال هذه الدول تركيا وإيران وكندا وماليزيا وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وغيرها.


القسم الثالث من الدول: الدول التابعة؛ وهي الدول الذليلة التي لا تقوى على حماية شرايين حياتها بنفسها لا داخليا ولا خارجيا إلا بإملاءات وتحكم خارجي من دول أخرى، ولذلك سميت دولاً تابعة أو عميلة أو فاشلة أو وكالات وشركات للدول المسيطرة عليها. فجيشها متحكَّم به ودستورها مفصل ليخدم مصالح الدول المتحكمة بها. وثرواتها نهب وبواباتها ومطاراتها ومعابرها مشرعة للدولة التي تتحكم بها وتستعملها، وهذا حال جملة الدول القائمة في البلاد الإسلامية.


والآن يتبين لنا واقع الدول في العالم وكيف يتم فهم الواقع فيها بناء على مفهوم السيادة الفعلي على شرايين الحياة في الدول. ولننتقل للإجابة على التساؤل المطروح ابتداء: كيف يحدث الفساد والإفساد في البلاد وكيف يمكن القضاء عليه ومعالجته؟


أولا يجب معرفة واقع الدولة العربية أو العجمية، أتجنب الآن أن أقول إسلامية بعد التفصيل أعلاه حتى لا أخالف الواقع، فمثلا لنأخذ مصر:


كيف يتغلغل الفساد في مصر؟ والجواب إن شرايين الحياة في مصر يتحكم بها الجيش المصري ولكن ليس لصالح الشعب المصري وإنما لصالح أمريكا وبتحريك وتوجيه وتحكم خارجي من أمريكا. فمصر تعتبر دولة تابعة لأمريكا لأن رئيسها وأمنها ودستورها وشرايين حياتها تتحكم بها أمريكا. ولذلك إذا أردت أن تزيل الفساد والإفساد في مصر فإن عليك أن تنتزع سيادة مصر من يد أمريكا من جديد. وهذا لا يكون إلا بأن يلتحم الجيش والشعب من جديد ضد أمريكا وعندها فقط يستطيع المصريون أن يستقلوا وعندها فقط يمكن الحديث عن إزالة الفساد والفاسدين. ولذلك فإن تغيير الحكومات في مصر ووجود البرلمانيين والحكومات ذوي الأغلبية الإسلامية أو غير الإسلامية لن تغير واقع مصر ولن تزيل الفساد إطلاقا بدون رفع يد أمريكا عن شرايين الحياة في مصر واستعادة المصريين لسيادتهم وقرارهم السياسي داخليا وخارجيا من يد أمريكا. لأن السيادة ليست كلمة تقال بلا معنى وإنما لها معنى فعلي في الدول وبدون وجود السيادة هذه فلن تحقق أي ثورة أي تغيير ولو كان بسيطا، وأن يزال أي شيء من الفساد المتغلغل والضارب في جذور الحياة في مصر، وهكذا تونس وهكذا السعودية ومعظم البلاد العربية والإسلامية.


وهذا معنى قوله تعالى ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ أي لا يجوز أن يكون للكافرين سيطرة وسيادة على دساتيرنا وشرايين حياتنا لأن ذلك سيزيل سيادة الإسلام عن حياتنا وسيزيل استقلاليتنا وحكم الله فينا وسيجعل السيادة للمتحكمين بنا وعندها سيعشش الفساد وسيتغلغل في بلداننا ولن نقوى على صد أي عدو أو تحرير أي أرض أو صناعة سيارة أو التحكم بأسواقنا وتجارتنا وحياتنا ولا بقوتنا ولا حتى بخبزنا ومياهنا.


والعلاج الإسلامي لكي لا تقع البلاد الإسلامية تحت سيادة الكفار هو بأن الله قد شرع نظاما سياسيا فريدا متميزا وهو نظام الخلافة، التي ترعى المسلمين وتحمي بيضتهم وعزتهم وثرواتهم وخيراتهم وحياتهم وأعراضهم وكرامتهم ومالهم، ويطبق فيها شرع الله ودستوره المنبثق من القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس الشرعي. فكل شيء في الخلافة مستقل عن التحكم الخارجي وعن سيطرة الدول الكافرة والمستعمرة على شرايين حياتنا، ودستورنا مستقل عن دساتير الدول الكبرى الاستعمارية لأنه ببساطة منبثق من الكتاب والسنة، وجيش الخلافة وخليفتها حاميان لشرايين حياتنا وكرامتنا وعزتنا ودستورنا، وبهذا فقط قضى الإسلام على الفساد والإفساد في البلاد. وهذا هو معنى تمكين الدين للمسلمين في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وهذا معنى الخلافة في حديث رسول الله ﷺ عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم» متفقٌ عليه.


فالخلافة ليست كما يظن البعض قطع يدٍ وجلد ظهرٍ ورجم الزاني، بل هي تطبيق الإسلام كاملا في الداخل والخارج بحيث تكون السيادة على شرايين حياتنا للإسلام والمسلمين، وبذلك يمحى الفساد ويمنع الإفساد بكل أشكاله وأنواعه بنظام ودستور الإسلام العادل والراشد في دولة الخلافة.


والآن بقيت مسألة واحدة، وهي ما هي الخطوات العملية لإرجاع سيادة المسلمين لهم في بلدانهم بعد أن فقدوها وتحكم بها المستعمرون؟ أي كيف يمكن إرجاع الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة إلى الحياة من جديد؟


لن يتسع المقام لذكر تفاصيل ذلك هنا ولكن نبينه على عمومه:


لقد بين حزب التحرير ذلك بالتفصيل، فالخلافة وإعادتها من جديد هي تخصص حزب التحرير منذ أن نشأ، وهناك طريقة شرعية لتحويل البلاد من دار تحكم بغير الإسلام إلى دار تحكم بأحكام الإسلام، وهذه الطريقة منصبة على فهم واقع البلدان والدول المبين أعلاه وفهم المعالجة المناسبة لواقع كل بلد مناط البحث. ولكن عموما فلا بد للشعب من استرجاع جيشه إليه، ولا بد للشعب من السيطرة على شرايين الحياة في بلاده حتى يتمكن من فعل ذلك، أي لا بد للشعب من استعادة سلطانه. ورأي حزب التحرير المبني على هذا الفهم يقول بضرورة أن تعمل كل الأمة وأحزابها وعلمائها ومفكريها والمخلصين فيها على كل المستويات بالكفاح السياسي والصراع الفكري وطلب النصرة من أولي القوة والمنعة المخلصين من أبناء الجيوش لإعادة سلطان الأمة على شرايين حياتها لها وإزالة أدوات الدول الاستعمارية التي تتحكم بالبلاد عن طريقهم.


هذا على عجالة ولكن الأمور مفصلة ومدونة ومؤسسة في أدبيات حزب التحرير ومؤلفاته بناء على فهم الأدلة الشرعية وقوة الدليل، طبعا بعد أن درس الواقع جيدا لمعرفته ثم معالجته بمعالجات الإسلام الحنيف. قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الدكتور فرج ممدوح

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع