- الموافق
- 1 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
محاربة الفساد بمنظومة الفساد نفسه أمر لا طائل منه
أصدر الرئيس السوداني عمر البشير يوم الاثنين 25 شباط/فبراير 2019م، أمر طوارئ بحظر الممارسات الفاسدة، ونص الأمر على عدم استخدام موظفي الدولة لسلطاتهم الوظيفية لتحقيق منافع شخصية، وحظر على الموظف إبرام التعاقدات أو الدخول في تعاملات ترتب التزامات على الدولة. كما نص على عدم استغلال الموظف لسلطة الوظيفة العامة، أو نفوذها لتحقيق أغراض أو مصالح، أو منافع شخصية غير مشروعة له، أو لأي أحد من أفراد أسرته، وحظر على أي موظف عام قبول أو طلب أي هدية أو مزية غير مستحقة من شخص له مصلحة مرتبطة بوظيفته. وحظر على أي موظف عام قيامه عمداً لصالحه، أو لصالح شخص آخر، باختلاس أو تبديد أو التصرف في أي ممتلكات أو أموال عامة أو خاصة أو أوراق مالية عامة أو خاصة أو أي أشياء أخرى ذات قيمة، عهد إليه بها بحكم عمله أو وظيفته.
عقود مرت على أهل السودان في ظل حكم الإنقاذ، ولم يُرَ فسادٌ يحل في الحكم مثلما حل في عهد هذه الحكومة، حيث استشرى الفساد وتعددت صوره وأشكاله وأنواعه، ولعل من المفسدات العظيمة، السلطة المطلقة، واستغلال الوظيفة أو السلطة في تحقيق النفع لصاحبها أو للمقربين والموالين، والاختلاس، والرشوة، والظلم، ومحاباة بعض الناس على حساب ظلم الآخرين، وعدم احترام وقت العمل، وضعف الإنجاز، والتشاغل أثناء العمل بما ليس منه، والعزوف عن المشاركة الفاعلة، والإسراف في استخدام المال العام فيما لا فائدة منه، وسوء توظيف الأموال، وإقامة مشاريع وهمية، والعبث بالمناقصات والمزايدات والمواصفات، نجملها في تعطيل الأحكام الشرعية.
وبعد ثلاثين عاما من حكمه، يصدر البشير قرارات الطوارئ، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد احتجاجات دامية، راح ضحيتها شباب في مقتبل العمر، مع تواصل القبضة الأمنية بالاعتقالات التعسفية، والإهانة والضرب والسحل للطالبات... لقد خلفت هذه الأحداث غضبا شعبيا كبيرا وامتعاضا شديدا من الناس، وقد شهدت البلاد تحركات احتجاجية ليلة خطاب الرئيس في أحياء عدة بالعاصمة الخرطوم في تحدٍ صريح لقانون الطوارئ الذي لا قيمة له ولا قداسة. في هذه الأثناء تدعي الحكومة إعلان الحرب على الفساد بإصدار قانون مكافحة الفساد ضمن قانون الطوارئ سعيا منها لإسكات المحتجين بإعطائهم جرعة من المسكنات، لكن يبدو أنها منتهية الصلاحية... نذكر الحكومة بأن ملاحقة الفساد المعلنة سابقا لم تُجدِ نفعا بل تركت المفسدين يسرحون ويمرحون، وذلك لحقيقة أن الفساد لا تحاربه منظومة الفساد نفسها.
نذكر الحكومة أيضا أن الفساد باض وأفرخ في عهدها وهو الذي أحالنا إلى مزيد من التدهور، وضيق المعيشة، وثروات البلد تعطى بالمجان للمستثمرين، ناهيك عن الخصخصة وتأجير الأراضي لأزمنة طويلة! هذا الباب الواسع من الفساد توصده الحكومة عمدا وترفض فتحه، لأن الفساد داخله يطال النظام بأكمله، لكنه سيفتح يوماً ليرى الناس حجم فساد لو خالط ماء البحر لأفسده، ولو قسم لأهل الأرض لوسعهم!
أعلن البشير، قبل هذا القرار، الحرب على الفساد مرات عدة، وأنشئت آلية سميت (آلية محاربة الفساد)، وتداول الناس بعض قضايا الفساد؛ مثل قضية الأوقاف، وقضية الأقطان، وفي زمن وجيز فهم الناس أن الحرب على الفساد، هي مجرد ذر للرماد في العيون، لأن الفساد نراه يسرح ويمرح ليل نهار، ويتلون بألوان مختلفة.
وهنا بعض الأخبار الموثقة عن الفساد، وتعد هذه الأخبار غيضاً من فيض، وتعد تقارير المراجع العام كل سنة دليل إدانة للنظام والحكومة وأن وزارة المالية متسترة على الفساد وتحمي المفسدين، وقد وردت كثير من الوقائع المثبتة، التي حدث فيها اعتداء للمال العام، ولم يتم فيها محاكمة المجرمين، والمقالات من الصحف بها الكثير من تحقيقات الفساد التي أيضاً، لم تجد من يحقق فيها إلى النهاية ومحاكمة الفساد المالي والإداري الذي تشير إليه، هذا غير ما يتسرب من الكثير من قصص الفساد، من بعض الأفراد، إلى الصحف أو المواقع السودانية الإلكترونية.
ففي صحيفة سودانيل وردت تقارير المراجع العام لسنة 2010م، كما يلي: (لاحظت المراجعة أن حسابات بنك السودان المركزي تظهر في نهاية العام المالي 2010 مديونية باسم الحكومة قدرها 2.7 مليار جنيه ولا أثر لها بحسابات وزارة المالية والاقتصاد الوطني (صحيفة الوطن 2011/10/16م)
اعترافات المتهم علي محجوب قضية الأقطان (صحيفة التيار 2011/08/3م)
الفساد في الهيئة العامة للحج والعمرة رشوة للتيار لتغيير مجرى التحقيق.
(صحيفة السوداني 2 شباط/فبراير 2012 أكثر من 300 مليون دولار قيمة الأراضي التي بيعت من المدينة الرياضية).
وفي صحيفة الانتباهة 15 كانون الثاني/يناير 2012 تحت عنوان: (قيادي بالوطني: "إبليس سيستغرب من ضخامة الفساد بالسودان")
أيضا (كشف تقرير اللجان المتخصصة بالبرلمان السوداني عن تجاوزات مالية في عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية خلال العام 2010-2011، شملت تجنيب المال العام لحوالي أربع عشرة وحدة حكومية، من بينها بعض الوزارات السيادية)!!
وفي صحيفة (الجريدة) الصادرة بتاريخ 2013/7/23 قضايا الفساد، تصريح رئيس آلية مكافحة الفساد.. إجراءات رفع الحصانة بالغة التعقيد!! 71% نسبة الزيادة في الاعتداء على المال العام تموز/يوليو 2013!
صحيفة سودانيل يوم 2013/01/24 (كشفت تقارير للمراجع العام عن صرف دستوريين بعدد من الولايات السودانية مبالغ دون وجه حق بلغت 55 مليون جنيه، وأكد أن استحداث بدلات ومخصصات غير واردة بقانون مخصصات الدستوريين أدى لضياع المال العام).
كل هذه القضايا وغيرها، لم تسفر جدلياتها عن عدالة وقطع ليد الفساد، بل هناك قضايا فساد معروفة يعتبر الخوض فيها من الممنوعات، وكثير من الشخصيات التي يتردد ذكرها عند العامة لم تشملها الإيقافات الأخيرة، وثبت أنها فوق المحاسبة، خاصة أقارب الرئيس وإخوانه، وكثيرة هي القوانين التي تم تمريرها في البرلمان في وضح النهار، وهي تشرع للفساد صراحة، كقانون الثراء الحرام المواد (6-7-13-14) من قانون الثراء الحرام والمشبوه. تنص المادة (15) من قانون الثراء الحرام لسنة 1989م (يعاقب كل شخص يثرى ثراءً حراماً بالسجن لمدة لا تتجاوز عشر سنوات أو غرامة لا تتجاوز ضعف مبلغ المال موضوع الثراء الحرام أو العقوبتين معاً)، بهذا النص تمت معاقبة رموز النظام المايوي السابق، وتم إيداعهم في السجن، وذلك عقب انقلاب الإنقاذ، واستبشر الناس بأنْ وداعاً للفساد والمفسدين... ولكن كما عودتنا الإنقاذ أن القوانين توضع بأهواء البشر وكلٌّ يغني على ليلاه عند التطبيق، بل توضع مواد تبطل مواد أخرى، وتسهل على المجرم الإفلات من العقوبة، ما يوجد تناقضاً مزرياً، فقانون الثراء الحرام هذا جاء فيه الآتي: نص المادة "13" الفقرة "1" والتي تُقرأ (يجوز لكل شخص أثري ثراءً حراماً أو مشبوهاً أو ساعد في الحصول عليه أن يحلل نفسه هو أو زوجه أو أولاده القصر في أي مرحلة قبل فتح الدعوى الجنائية ضده، "2" لأغراض البند "1" يتم التحلل بـ "أ" بردّ المال موضوع الثراء الحرام أو المشبوه وبيان الكيفية التي تم بها الإثراء، أو "ب" ببيان الكيفية التي تم بها الإثراء بالنسبة إلى الشخص الذي ساعد في ذلك). وقد طبقت هذه المادة في قضية مكتب الوالي مبلغ (17.8) مليار جنيه بعد قبول المدانين بمبدأ التحلل من المال الحرام! الشيء الذي أكدته لجنة التحقيق، وقالت إن المتهميْن قبلا مبدأ التحلل من المال الحرام حسب قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه المادة (13)، بدفعهما المبلغ 17835000 مليون جنيه شملت استرداد (9) قطع أراضٍ و(5) عربات تم تحويلها باسم حكومة السودان بجانب توريد مبلغ (2900000) مليونين وتسعمائة ألف جنيه للخزينة العامة.
حتى المحاكمات التي تمت لما يسمى رموز الفساد، هم في الأساس من الذين موّلوا حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وهؤلاء يعتبرون خطراً على المال العام، ولن يقضى على الفساد إلا بحل هذا الحزب، وتقديم أعضائه لمحاكمات عادلة، فهل تستطيع الحكومة فعل ذلك لتقطع يد الفساد حقيقة؟
إنّ الفساد المستشري في السودان، لا يتمثل في بضعة أشخاص قد يُضحى بهم في مشهد درامي، أو في إطار تصفية حسابات شخصية بين أعمدة الفساد، بل هو منظومة لا زالت قائمة متربعة في سدة الحكم، تسعى للتلون في كل أزمة تستنسخ نفسها بوجوه جديدة، إذ هي منظومة تقوم على نظرة في الحكم تستمد أساسها من الرأسمالية الفاسدة، فصل الدين عن الحياة، وتستمد دعمها من أمريكا التي تفرض أجنداتها على البلاد علانية، ومنظمات الكفر الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يستنزفان البلد بمديونية الربا الفاسدة، فعن أي فساد تتحدث هذه الحكومة، وهي قوام كل الفساد وأصله وفصله؟!!
لمحاربة الفساد يجب أن يكون تطبيق قانون رب العالمين، الذي لا يجامل أحداً، ولا يحابيه مهما كان منصبه، وهو قانون معد لينطبق على الجميع لا على الضعفاء، أو من انتهت صلاحيتهم من الأقوياء، دون وجود خطوط حمراء أو أشخاص فوق المحاسبة، وهو ما نفتقده بشدة حيث إن أي شخص فوق مستوى الشبهات طالما أنه في السلطة، يبقى فقط معرضاً للمساءلة إذا فقد هذه السلطة، أو أصبح من المغضوب عليهم.
لذلك تبقى دعوات هذه الحكومة لمحاربة الفساد، مجرد شعارات جوفاء، وعبارات خرقاء، ثم يمارس الفساد في وضح النهار، ويعاقر، ويُستمرأ الظلم، فأولئك عاقبتهم الخسران في الدنيا والآخرة: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّـهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾. إن الفساد لا يحارب إلا بدولة مبدئية على أساس عقيدة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي تجعل رضوان الله هو غاية الغايات، وتسهر على تحقيق العدل طاعة لله، فيكبح جماح الفساد، وينعم الناس بحياة كريمة.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة عبد الجبار – أم أواب