الاستلاب الثقافي ثمار مُرّة نجنيها من سياسة التغريب
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
اتهم مفكرون ومثقفون جهات لم يسموها باستهداف الشباب وتدمير عقولهم وجرّهم للانضمام لتنظيم الدولة وجماعة بوكو حرام، وطالبوا الدولة بحماية الأجيال الجديدة مما وصفوه بالأفكار الهدامة. واعتبروا في الوقت ذاته اهتمام الفتيات بتبييض البشرة، و«زفات العروس» المستوردة في الأعراس السودانية ثقافات وافدة وقالوا «في جيل كامل بره شبكة الثقافة».
وقال الأمين العام لاتحاد المهن الموسيقية محمد آدم سليمان، خلال ملتقى تنسيق المنظمات والجماعات والكيانات الثقافية الذي نظمته أمانة الفكر والثقافة بالمؤتمر الوطني: "كيف نفكر ونبني وبيننا مثل هذه العقليات الذين فتح لهم السياسيون الباب للدخول"، منتقدًا دور الأجهزة الإعلامية بالبلاد ووصفها «بالمجهجهة» بوضعها للثقافة في ذيل الأولويات، والاهتمام بالسياسة، وكشف سليمان عن استبيان تم بجامعة الخرطوم، جاءت نتيجته جهل غالبية طلاب الجامعات بعواصم الولايات. ومن جانبها أقرت رئيس قطاع الفكر والثقافة بالوطني الأستاذة/ انتصار أبو ناجمة بتحديات تواجه قطاع الثقافة بالبلاد. (صحيفتي المجهر وآخر لحظة).
إن ما وصل إليه حال الناس من الاستلاب الثقافي من كل قيمة وانتماء يمثل هويتهم الإسلامية لا يعالجه التباكي وإلقاء اللوم على أعضاء في المجتمع، قلوا أم كثروا، ولا ينقذنا اعترافات عاجزة من منتسبي الحزب الحاكم؛ الذين هم من حكومة تمثل في الأصل الضابط الأساس للمجتمع الذي يتكون أساسًا من (الأنظمة الحاكمة التي ترعى الشؤون وأفكار الناس ومشاعرهم) ولا يخفى على أحد أثر الدساتير المتعاقبة في صياغة أفكار ومشاعر بعيدة كل البعد عن عقيدتهم الإسلامية.
لا بد من معرفة أسباب ومسببات حقيقية تكمن وراء هذا الخواء والتقليد الأعمى؛ الذي ما إن وجد في الأفق ومضة برق ظن أنه الخلاص حتى ظهر انحطاطًا وتخلفًا وبعدًا عن شرع الله الحنيف، ولا بد أن يكون العلاج مبدئياً يعالج المشكلة من جذورها كي لا تعاود الظهور. هذا لمن كان مجدًا في طرح المعالجة، وليس التظاهر بالألم إلى ما وصل إليه من حال لم تصب بها أمة الإسلام من قبل.
في يوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2001م تبنت الدورة الـ31 للمؤتمر العام لليونيسكو بالإجماع، إعلان اليونيسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، وطبّل المطبلون، وقالوا حينها إن الإعلان مثل قفزة مهمة في اعتراف المجموعة الدولية بأهمية المحافظة على التنوع الثقافي ورعايته، وتضمن عدة مبادئ وألزم اليونيسكو ودوله الأعضاء بمتابعة إكماله وكان لفرنسا دور كبير داعم لهذا الإعلان بل عمدت عبر منظماتها لترويجه والحث عليه في الكثير من المحافل الدولية.
وقد نصت الاتفاقية على حقوق الدول وواجباتها في شأن التنوع الثقافي، المتوقعة على الصعيد القومي وقد جاء هذا النص ضمن الاتفاقية (ضمان إمكانية الدول من حفظ وتنمية سياسة مساندة للتنوع الثقافي، وحرية اختيار التدابير المناسبة، وإنشاء حيز للمنتجات الثقافية القومية، وتقديم مساعدات مالية، وتخصيص دور لمؤسسات القطاع العام وللصناعات الثقافية المستقلة) وهنا استغل الشعور القومي الذي يسيطر على معظم شعوب العالم، لعدم وجود بديل يمثل الانتماء الفكري المبدئي الصحيح، كما نصت الاتفاقية على الصعيد الدولي (تعاون ثقافي دولي، تبادل المعلومات، بلوغ المنتجات الثقافية الأجنبية، رعاية التنوع الثقافي في الأماكن المتعددة الجانب، مساعدة على التنمية). كما يلزم تحديد آلية متابعة لتطبيق الاتفاقية مع جهاز لتسوية الخلافات، وهنا مكمن الخطر لأن هذا يعني مبدئياً دخول الدعم المادي والتنمية كجزء محرك لما يسمى التنوع الثقافي، أي المال مقابل التنوع الثقافي الذي ستصوغه القوانين الدولية - الأمم المتحدة ومنظماتها.
وانطلاقًا من الإعلان العالمي لليونيسكو، تهدف الاتفاقية الدولية بشأن التنوع الثقافي إلى تكريس شرعية السياسة الخاصة بحفظ ورعاية التنوع الثقافي من منظار القانون، مع مفعول قانوني يجعلها إطارا مرجعيا للدول.
وللمنظمات المتعددة الجانب الآخر بحيث تتيح إقامة التوازن مع قواعد المنظمة العالمية للتجارة عبر معيار ثقافي (ما هو هذا المعيار لم يحدد!). وهذا يعني بالضبط عولمة ثقافة الغرب فقط لأنه هو من يمتلك فعليا منظمات تجارية فاعلة في التجارة الدولية.
الدويلات القائمة في العالم الإسلامي كالعادة في مثل هذه الاتفاقيات، لا تملك سوى المسارعة للتعامل مع موضوع التنوع الثقافي، فقد وافق ممثلو الدول الأعضاء في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بما فيهم ممثل السودان (الذي يقول بالمشروع الحضاري الإسلامي)، فقد التقوا في إطار الملتقى الدولي حول التنوع الثقافي وحوار الثقافات في العاصمة الموريتانية نواكشوط كانون الثاني/يناير 2005م، على مشروع (الميثاق الإسلامي للتنوع الثقافي) بعد مناقشته، وقرروا عرض هذا الميثاق على المؤتمر الإسلامي الرابع لوزراء الثقافة، والذي عقدته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في شهر كانون الأول/ديسمبر في الجزائر من نفس العام.
ويستند (الميثاق الإسلامي للتنوع الثقافي) إلى القرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، بشأن الحوار بين الحضارات والتنوع الثقافي، وإلى المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والقرارات والبيانات الصادرة عن منظمة المؤتمر الإسلامي - لا سيما إعلان طهران - الذي أصدرته الدورة الثامنة لمؤتمر القمة الإسلامي، وينسجم مع المبادئ الإسلامية للأخوة الإنسانية والعدل، والسلام والتسامح، والتعايش وفهم الآخر، والانفتاح على الثقافات، واحترام الديانات السماوية الأخرى، ومع قيم الحضارة الإسلامية، وتقاليد الشعوب الإسلامية في علاقاتها مع الشعوب الأخرى، والقائمة على مبدأ الاحترام المتبادل.
نستطيع أن نقول إنه بهذا قد أصبحنا مستعمرين فكريًا وثقافيًا لأن أي حرف من الكلمات السابقة لا يمثل إلا ثقافة الغرب الديمقراطية الليبرالية العلمانية، لكن بشعارات براقة تأخذ بلباب السذج من الناس، فالأخوة الإنسانية؛ هذا المصطلح الذي أزال الحواجز بين العقائد والأديان، فأصبح من يعتنقونها إخوانا متحابين في رحاب العلمانية الملحدة؛ التي لا تعترف بدين وتعتبر المتدينين مجموعة مجانين ودراويش، لكن أضفوا عليه شعارات جميلة هي العدل والتسامح و... الخ، وهذا ليس للمساواة بين الأديان، ولكن تمييعٌ وإبعادٌ للأديان عن الحياة، وهو القصد الأساس للعلمانية التي تعتبر الدين أفيون الشعوب.
طبعًا في السودان، كجزء من المنظومة الدولية، نستطيع القول الآن إنه صار هناك اتفاق عام، إن لم يكن كاملًا، بين جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية السودانية على أن السودان بلد متعدد الثقافات والأديان والإثنيات والأعراق، وإن أي نظام للحكم لا يستصحب هذه التعددية في برامجه وسياساته إلى جانب التعددية السياسية، محكوم عليه بالفشل. لكن لم يصل السودانيون لهذا الاتفاق بين عشية وضحاها، إنما استغرق الأمر رحلةً طويلةً من النزاعات والحروب وتجاذب القراءات السياسية لأصل النزاع وطبيعته والتي تفقد البوصلة والانتماء لعقيدة أهل البلد. ولن تسمح هذه المقالة للاستفاضة في ما أمضته حكومات السودان، خاصةً حكومة الإنقاذ من اتفاقيات مع المتمردين؛ والتي ضجت بنفس العبارات الموجودة في الاتفاقيات الدولية ومنصوص عليها في دستور السودان، وهي (السودان قطر متعدد الثقافات والأعراق) وكانت النتيجة المساعدة في انفصال الجنوب وتهيئة مناطق أخرى للفصل بذات الثقافة التي تنظر لكل منطقة على أن أهلها شعب له أعراف وثقافة قائمة بذاتها وتماما تحققت فينا مقولة (داوني بالتي هي الداء).
إن العلاج هو في نظام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الذي صهر شعوبًا وقبائل وأممًا، في بوتقة العقيدة الإسلامية قرونًا، وشكل نموذجًا شامخًا في أن معالجة المشكلة من منظور الإسلام يجب أن يكون في النظر على أنها مشكلة إنسانية؛ أي أن الإنسان له غرائز وحاجات عضوية تتبنى الدولة إشباع الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، وتعليم وصحة لكل فرد بما يحفظ إنسانيته، وتحض الناس على إشباع الحاجات الكمالية وتزرع في الناس السمو والهمة فتتحقق كل قيمة ترتجى، وينهض المجتمع إلى أعلى درجات النهضة. وقد شهد لنا العدو قبل الصديق بأننا لم نجبر أحدًا على اعتناق مبدئنا، كما اليوم، عبر الابتزاز والضغط، كما تفعل الحضارة الغربية لعولمة مبدئها، بل دخل الناس في دين الله أفواجًا لاقتناعهم بعدل نظام خالقهم وخالق الوجود الذي لا يظلم عنده أحد.
وإذا رَجَعنا إلى تاريخ أسلافنا، فإننا نَجد أنَّ الدولة الإسلامية عندما قامت، قامَت على أُسسٍ ومبادئَ وقِيَم إسلامية، وعلى نَبْذ العصبيَّة الجاهليَّة والعُنصريَّة، عندها ساد التآلُف وتوحَّدت عناصر الأمة الإسلامية، فكان ذلك نموذجًا في تأسيس الدولة الإسلامية في مُدة زمنيَّة محدودة، وأما اليوم، فإننا نحتاج إلى عمل جاد دائمٍ ودؤوب لاستئناف الحياة الإسلامية؛ لتقوية دعائم الأمة الإسلامية لمواجهة هذه الظروف والتحدِّيات التي تُواجه الأُمة الإسلاميَّة اليوم، حتى نَلحق بالرَّكب الحضاري، ويتحقَّق الهدف، وتتحقَّق وَحْدة الأمة الإسلامية؛ عملًا بقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103].
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة عبد الجبار / أم أواب