واقع العالم الإسلامي (مصر كمثال)
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
احتفل العالم الغربي بمئوية الحرب العالمية الأولى قبل أشهر، وكان إسقاط الدولة الإسلامية أعظم انتصار حققه الغرب على المسلمين في العصر الحديث، فصُنعت دول، وخُطَّت حدود، وأوجدت ولاءات وطنية وقومية، قائمة على معاداة الإسلام.
وجاء الربيع العربي متأخرًا أكثر من مائة عام، جاء بدون تخطيط من أحد، اللهم إلا من التراكمات المذلة التي حاقت بالأمة الإسلامية، وتنامي الوعي على الإسلام، جاء وقد اشتد ظلم الحكومات الاستبدادية وازداد الفقر والمهانة، والاستخفاف بالشعوب الإسلامية وبما تؤمن.
فكان مجيؤه هذا ليمثل لحظةً فارقةً، أصابت المستعمر الكافر المتحكم بمصير المسلمين بالهلع والارتباك، وقد تحركت الشعوب العربية الإسلامية على غفلة منه، فرأت أمريكا أن خلعها من بلاد المسلمين قاب قوسين أو أدنى، فأذهلها ما يحدث، فاتخذت تجاه المسلمين، سياسة حافة الهاوية، كل شيء أو لا شيء، فدفعت عملاءها لقتل المسلمين، وهتك أعراضهم في مصر وسوريا، بسابقة لم تحدث إلا من الصليبيين والمغول والإسبان حين ضعف المسلمين.
ومنذ أن أُسقطت دولة الخلافة، وأقصيت الشريعة الإسلامية عن الحكم، غاب المسلمون عن صراع أعدائهم إلى أن جاء الربيع العربي وأظهر القوى المتصارعة على بلاد المسلمين وهي:
- أولًا: المسلمون، وهم عامة المسلمين والجماعات والأحزاب الإسلامية - الإسلام السياسي الدعوي، والإسلام السياسي الجهادي على اختلاف تياراتهم الفكرية - وعامة المسلمين.
- ثانيًا: العلمانيون من أبناء المسلمين الذين يتبنون فصل الإسلام عن تنظيم شؤون الحياة، ويتخذون الحياة الغربية وأفكارها طريقة لحياتهم اعتقادًا ومنهجًا ودعوةً. ومنهم من يظهر عداوته ورفضه للإسلام صراحةً، ومنهم من يخفي رفضه ويظهر الإسلام، يقول فواز جرجس - وهو أستاذ جامعي - في مقالة صحفية "وقد انطوى العلمانيون والليبراليون على عدم ثقة عميقة بالإسلاميين منذ البداية، ونظروا إليهم باعتبارهم تهديدًا وجوديًا لهوية مصر العلمانية، وهو ما دعاهم إلى دعوة الجيش للإطاحة برئيس منتخب ديمقراطيًا، ثم إلى احتضان الجيش لاحقًا - في تصرف غير ديمقراطي - وما يزال الصدع الإسلامي القومي الذي ظهر في الخمسينات موجودًا، وما تزال الحروب الثقافية مستعرة، وقد جرى استثمار هذا الانقسام الآن بإيحاءات قائمة على أسس ثقافية وحضارية." وكتب أدونيس الشاعر العلماني (القومي السوري العلوي) والمنتقد العنيف للإسلاميين في مقال له في صحيفة "الحياة" "إن الصراع بين الإسلاميين والقوميين ذوي الميول العلمانية، هو صراع ثقافي وإنساني حضاري أكثر من كونه صراعًا سياسيًا أو أيديولوجيًا، إنه مرتبط عضويًا بالصراع على مستقبل الهوية العربية على "المستقبل العربي".
- ثالثًا: الكفار أعداء الأمة الإسلامية المحاربون فعلًا وحكمًا، المسيطرون على العالم الإسلامي والطامعون فيه، وهؤلاء مع العلمانيين يشكلون جبهةً واحدةً ضد الإسلام والمسلمين، وهؤلاء الكفار لا زالت معركة بلاط الشهداء، وفتح الأندلس، وفتح اسطنبول، وحصار فينا قلب أوروبا، والحروب الصليبية، وضعف المسلمين، واستغلال خيرات بلادهم ونهبها وحكمها مباشرةً، وانتشار الإسلام هذه الأيام في حواضرهم بوتيرة تقلقهم، ومثابرة المسلمين على العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، هذه الأمور مجتمعة، تطبع الصراع الدائم والمستعر بين الكفار والمسلمين، وتشكل عقولهم وموقفهم من الإسلام والمسلمين، فالحضارة الإسلامية هي التحدي الحقيقي للحضارة الغربية وهي ما تقلقهم.
لقد ظهر للعيان أن السند الطبيعي للسلطة هو الشعب، فقد وقفت قوى البطش والبغي أمام الشعب المصري عاجزةً، وبينت الأحداث أن الكفار لا يستطيعون تنفيذ سياساتهم في بلاد المسلمين إلا بمعونة من بعض أبناء المسلمين، وبالأخص من حكامهم، وأظهرت بعض الانتخابات تساوي عدد مؤيدي المسلمين تقريبًا مع مناهضي الإسلام، مع ما فيها من تزوير وتشويش إعلامي، وهذا يدل على تنامي الوعي على الإسلام، ومن جهة أخرى أظهر حجم القوى المعادية للإسلام، مثل الوسط السياسي لأنظمة الحكم السابقة، وأجهزة الإعلام والقضاء والجيش كمؤسسات، والعلمانيين المرتبطين بالغرب ثقافةً وإعجابًا ومصالح كأفراد، وما سخروه من إمكانات لحشد أصوات تساندهم.
لقد ضربت هذه الأحداث الأنظمة الاستعمارية السلطوية المدعومة من الخارج بالصميم، ولم تخلعها من جذورها، والتغيير يجب أن يكون جذريًا انقلابيًا، لا يبقي من العهد السابق شيئًا مهما قل شأنه، بتبني الإسلام كاملًا شاملًا في جميع نواحي الحياة، وهذا لم يتوفر الآن. فكان لا بد من أساليب ووسائل يتركز الاهتمام فيها على محاصرة الوسط السياسي المدعوم من خارج البلاد للقضاء عليه وشل حركته، حتى لا يتمكن من العودة إلى السلطة، وإسماع الناس صوت الإسلام ولمسهم صدق المسلمين ورحمة الإسلام وإنصافه للناس، حيث إن العداء للإسلام مستحكم لدى الغرب وأتباعه من العلمانيين، وما زال بأيديهم قوى مهيمنة على العالم الإسلامي، ومانعة لاستئناف الحياة الإسلامية.
ومن الأحزاب والحركات الإسلامية التي انخرطت في أحداث الربيع العربي في مصر، جماعة الإخوان المسلمين التي هي جمعية خيرية إصلاحية في الأساس، اشتغلت فيما بعد بالسياسة، وتأثرت في ما كان قبلها من التيارات الفكرية، التي كان للغرب الأثر الواضح في توجيهها مثل مدرسة محمد عبده التوفيقية، فجاءت بفكرة إصلاح المجتمع من الداخل، وهذا يعني أن المجتمعات التي قامت بعد احتلال الكفار لبلاد المسلمين، والتي تنظمها أفكار الرأسمالية العلمانية الاستعمارية، وتتحكم في علاقاتها، وتحكمها بقوانين علمانية تعادي الإسلام، هي مجتمعات إسلامية بنظرهم أصابها الفساد، فلا بد من إصلاحها، لا مجتمعات جاهلية ينبغي تغيير نظمها وعلاقاتها وأفكارها لتصبح إسلامية تغييرًا جذريًا انقلابيًا، وهذا يعود لفهم الإخوان أن المجتمع ما هو إلا مجموعة أفراد، ويتمسكون بالقول أصلح الفرد يصلح المجتمع، والأفراد مسلمون، فيكون المجتمع إسلاميًا يحتاج إلى بعض الإصلاح، ومن يقول أن المجتمع غير إسلامي أو مجتمع كفر، أو مجتمع جاهلي، فهو يكفر الناس (مع العلم أن المجتمع يتكون من أفراد وأفكار ومشاعر وأنظمة تطبق عليهم، أي علاقات دائمية بينهم، وهذا يبين أن الفرد لا يأخذ صفة المجتمع ولا المجتمع يأخذ صفة الفرد. فلكل منهم مقومات وصفات تختلف عن الآخر). وخلصوا إلى المحافظة والقبول بالأساس الذي قامت عليه تلك المجتمعات الرأسمالية العلمانية، التي تخالف الإسلام وتعاديه، ورأوا تبعًا لذلك أن الإصلاح يبدأ من الداخل، بمشاركة الحكم مع الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية، فكانت فكرة التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، النتيجة الطبيعية لمثل هذا التفكير ليخرجوا من مأزق خلط الإسلام بالكفر، وإرجاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وفكرة الإصلاح من الداخل تفضي إلى مشاركة الحكام الظلمة المستبدين في الحكم، وتطيل أعمار أنظمتهم، وتلبس على الناس وتدمج الإسلام بالكفر. لذلك لم تكن مفاجأة دعوتهم إلى دولة مدنية بمرجعية إسلامية، وإرجاؤهم الحكم بالإسلام إلى أجل غير مسمى، وادعاؤهم بالتفريق بين الديني والسياسي، بمعنى أن الدين لا يحكم السياسة، وأن الديمقراطية هي الشورى وبأنهم واقعيون، هذا الفهم بهذه الأفكار جعلت الإخوان يقبلون برئاسة منقوصة للسلطة في مصر، وجعلت مرسي مترددًا حائرًا في قراراته ليس لديه رؤية، ولا هدف واضح يعمل لإنجازه، فلم يحكم بالإسلام قطعًا، لا تدرجًا ولا مباشرةً، ومالأَ الجيش وهادن أمريكا ظنًا منه أنها قبلته. وركن إلى رجالات العهد السابق ولم يتصرف كعلماني، سياسته الغاية تبرر الوسيلة، فيمكّن لحكمه بأي وسيلة، وينظر إلى خطورة بقاء الوسط السياسي، للعهد السابق متحكمًا في مفاصل الحكم، وارتضى بحكم منقوص يكاد يكون شكليًا مجردًا من أي سلطان، وكان عليه محاصرة رجالات العهد البائد إن لم يستطع التخلص منهم، إلا أنه غرق في وهم السلطان وكرسي الحكم.
كان على الإخوان فهم واقع مصر، وتحرك الشعب المصري، وعجز الولايات المتحدة عن استيعاب حركة الشعب ومجابهتهم، فيحتموا بالشعب ويتصرفوا على أنها فترة انتقالية، من الحكم الجبري إلى الحياة الإسلامية، توجب التخلص من نفوذ الأمريكان وطردهم من المنطقة، وفكفكة ركائزهم وفضح العلمانيين وبيان عداوتهم للإسلام وتبعيتهم للغرب، وبيان رحمة الإسلام وإنصافه للناس، وتسامحه معهم مهما كانت أديانهم، وأنه يحقق العدل والإنصاف لكل فرد بصفته الشخصية، وأن الحكم بالإسلام ضرورة دينية لأنها طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وضرورة دنيوية لأن الإسلام يحقق العدل والإنصاف للإنسان.
وعليهم الآن بعد انقلاب السيسي، مراجعة مسارهم الفكري والالتزام بالحكم الشرعي، ولا يكفوا عن مكافحة السيسي وأعوانه، وأن لا يستقر له أمر، وبيان تبعيته للأمريكان، وحرصه على مصالح اليهود. ويلاحظ أن الرجل مهووس بالسلطة، فبعد قيامه بالانقلاب عتب على أوباما أنه لم يتصل به. ويقوم الآن بما لم يقم به غيره، فقد هدم رفح المصرية وهجّر أهلها، ويحاصر غزة، ويغامر في ليبيا لعل أمريكا تقره على حكم مصر؟
ويظهر أن السيسي صدّق زعم سعد الدين الهلالي أنه هو ومحمد إبراهيم من رسل الله، وكذلك زعم راعي الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية في القاهرة "مكاري يونان": أن الرئيس عبد الفتاح السيسي مرسل من السماء، ليزعم هذه الأيام أن الإسلام بحاجة إلى ثورة دينية، وأن هناك نصوصاً مقدسة في الإسلام يجب تغييرها فهي تضع مليارًا وست مئة مليون مسلم في حرب مع بقية العالم. وكانت مصر قد وقعت في أحابيل النفوذ الأمريكي، أوائل خمسينات القرن العشرين وأمريكا شديدة الحرص على البقاء في مصر لما تمثله مصر من أهمية للعالم الإسلامي، ومن جهة أخرى للحفاظ على احتلال اليهود لفلسطين.
ويمكن اختصار سياسة أمريكا في مصر بالنقاط التالية:
1. حرص أمريكا على بقاء مصر مركز استقرار لنفوذها، ومنطلقًا آمنًا لتنفيذ مشاريعها في المنطقة الإسلامية، وبقائها طائعة لأمرها كطاعة الزوجة لزوجها، على حد وصف وزير خارجية مصر السابق. ويصرح السيسي أن علاقة مصر بأمريكا علاقة استراتيجية.
2. أن لا تُبنى دولة قانون في مصر مهما كان هذا القانون إسلاميًا شرعيًا كان أم غربيًا ديمقراطيًا، فهذا يعني الانفكاك من نفوذها، بل تحرص أن تكون السيادة والسلطة بيد الحاكم الذي تعيّنه فيكون حاكمًا مستبدًا عنيفًا ظالِمًا مستندًا عليها في بقائه حاكمًا.
3. استمرار تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الاستعماري لإفقار أهل مصر وزعزعة اقتصادها، وبقائها عالة على مساعداتها، ولا تجد سبيلًا لحل مشاكلها الاقتصادية، وربطها بقروض البنك الدولي لإحكام السيطرة الاقتصادية عليها وإفقار أهلها.
4. تطبيق الديمقراطية الزائفة من سن قوانين محسوبة النتائج لمصلحة استبداد الحاكم واستمرارًا لنفوذها وإجراء انتخابات مزورة، لإخراج مجالس برلمانية شكلية تنسجم مع رغبة وهوى الحاكم.
5. الحفاظ على مناهج وسياسة التعليم التي أرساها الكفار، وتعديلها حسب حاجة اليهود والغرب.
6. المحافظة على إسناد الإعلام للعلمانيين ورجالات الحاكم والمرتبطين بها.
7. نظام القضاء تحت وصاية وتوجيه المخابرات العامة وأمن الدولة.
8. ربط مصر باتفاقات مقيدة لها ومجحفة بحقها.
9. ربط الجيش المصري بأمريكا تدريبًا وتسليحًا وتثقيفًا وولاءً، وبعقيدة تقبل باليهود جيرانًا على الحدود الشرقية لمصر.
10. المحافظة على دولة اليهود واستمرار تفوقها العسكري والاقتصادي على المنطقة العربية، فقامت أمريكا باستنساخ انقلاب 1952 لدرجة أنها وجهت السيسي لزيارة روسيا والتحدث عن صفقات السلاح الروسي، وجعلت إعلام السيسي يتحدث عن الانفكاك عن الأمريكان، واتخذت داخل مصر سياسة حافة الهاوية كل شيء أو لا شيء، فقتلت آلاف المسلمين وأحرقت جثث المصابين وسجنت الآلاف، حتى وصل الأمر لانتهاك أعراض الفتيات لأجل أن يستكين المسلمون للبطش والاستبداد.
إن الخبرة التي خرجت بها أمريكا بعد احتلال أفغانستان، واحتلال العراق وزرع الفتنة الطائفية فيه، مفادها أن الإسلام السياسي العامل لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة، لا يمكن التعامل معه، فهو العدو اللدود، وهو عين الإرهاب ولا يمكن التعايش معه، لأنه يهدد مصالحها ويعترض طريقها وينفي نفوذها.
إن الكفار حريصون على بقاء الولاءات التي تم صنعها على إثر تقسيم بلاد المسلمين، وإبقاء الحدود والانتماءات المعادية للإسلام أساساً في حياة المسلمين، وعلى إشغال المسلمين بنزاعات طائفية وإثنية، وإثارة البلبلة حول بعض مفاهيم الإسلام، واتهام الإسلام بالإرهاب والتعصب والتخلف والاستبداد. وعلى استلاب خيرات بلاد المسلمين والمحافظة على العلمانيين من أبناء المسلمين ودعمهم، وإبقاء السلطة بأيديهم، وزرع عداوة الإسلام والمسلمين في قلوبهم، وجعل الإسلام في أحسن أحواله دينًا كهنوتيًا ليس له علاقة بتنظيم شؤون حياة الإنسان.
لقد بين الربيع العربي - مدى هشاشة الدول القائمة في العالم الإسلامي - وعداوة العلمانيين للإسلام والمسلمين - وأن سند الحكم خارجي وهو العامل المانع للتغيير - ولا حدود لبطش واستبداد الحكام، ومن يدعمهم للحفاظ على السلطة - واستعداد الكفار للاحتلال العسكري لبلاد المسلمين تحت أي ذريعة.
هذه لحظة فارقة في حياة الأمة الإسلامية وقد احتدم الصراع بين الإيمان والضلال، واتخذ الكفار وأعوانهم أساليب وإجراءات ووسائل، لم يجرؤوا على استخدامها من قبل، فلا بد من شحذ الهمم وإدارة الصراع، باتخاذ أساليب ووسائل وإجراءات كفيلة بإخراج نفوذ الكفار من ديار الإسلام، وتحجيم أعداء الإسلام من أهل البلاد وتعريتهم وإظهار تبعيتهم للكفار. وذلك على اعتبار أننا على عتبة استئناف الحياة الإسلامية.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
إبراهيم سلامة - أبو موسى