تجديد الخطاب الديني، ونقض نسبية المعرفة!
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرًا لما بتنا نشهده من تعالي الأصوات الممنهجة والموجهة للتشكيك بهذا الدين، وطبيعة هذه الأمة، والمطالِبة بتجديد الخطاب الديني والتي وصلت حدًا من الوقاحة تجاوز كل الحدود في دعوة عليّةِ القوم في بعض بلادنا الإسلامية بثورة على النصوص الدينية...!!
إن دعوة تجديد الخطاب الديني إنما هي دعوة خبيثة تدَّعي باطلًا بأنها تستند إلى مفهوم الحديث «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام رجلًا يجدد للناس أمر دينهم»... وهم في استدلالهم قد جانبوا الصواب عمدًا وترصدًا للإضلال، حيث التجديد المقصود بالنص وباللغة هو إعادة الشيء لأصله وحاله الأول... وأما دعوة تجديد الخطاب الديني فهي دعوة لتبديل الدين وتغييره بما يتناسب مع إملاءات الحضارة الغربية وجعل إرضاء الغرب في الخطاب والطرح والمعالجات هو المقياس.
وما كان لأصحاب هذه الدعوة أن يتجرؤوا على ما أقدموا عليه لولا ارتكازهم على منهجية فكرية تتمثل بنظرية "نسبية المعرفة" أي فكرة تعدد الأفهام، وتعدد الحقائق، وما هو بالنسبة لشخص ما حقيقة، فهو بالنسبة لآخر ليس بحقيقة، وبالتالي لا يصح أن تعتدَّ برأيك كثيرًا، ولا يجوز أن تعول الكثير على مجهودك بالبحث عن الحقيقة؛ لأنه بشكل عام لا يوجد حقيقة مطلقة بل إنما الحقيقة والأفهام نسبية!
ولما في هذه الفكرة "نسبية المعرفة" من مكر وتدليس على العقول والأذهان ومغالطة صريحة بالخلط بين حقيقة تعدد الأفهام، وفرية نسبية الحقائق، أحببت أن ألقي عليها بعض الأضواء بتفصيلها، وملاحقة حدودها، ومدى مطابقتها العملية للواقع بدقة.
فكما ذكرنا في تعريفنا لهذه الفكرة، نجد أنهم يسقطونها على أمرين: أولًا على نسبية الأفهام، وثانيًا على نسبية الحقائق؛ أما نسبية الأفهام... والفهم هو القدرة على تمييز الأشياء والأفعال والأفكار والحكم عليها... أي القدرة على التفكير... والأفهام والأفكار إما أن تكون موروثة، وإما أن تكون نتيجة للعملية الفكرية، أي نتيجة لنقل صورة الواقع عبر الحواس إلى الدماغ الصالح للربط مع وجود المعلومات السابقة.
والفهم البشري طبيعي أن يتفاوت وأن يختلف باختلاف القدرات الحسية التي تمكن من الإحاطة بالواقع ونسبة الإحاطة، واختلاف المخزون المعرفي والمعلوماتي، والصفاء الذهني أو تشتته، واختلاف القدرات على الربط والضبط الموهوبة لكل إنسان أو التي يسعى لتنميتها. ولكن الاختلاف في الفهم والنسبية فيه تكون في معرفة ماهية وتفاصيل الأشياء... لا في معرفة وتحديد وجود الشيء أو عدم وجوده!
أما نسبية الحقائق، فهنا يجب أن يكون تعريفًا واضحًا متفقًا عليه لواقع الحقيقة... ومما لا شك فيه ولا خلاف عليه أن الحقيقة عند كل العقلاء هي مطابقة الفكرة للواقع...! أي أن الحكم الذي تم إصداره على واقع معين... والفهم الذي تم التوصل إليه بخصوص هذا الواقع... يصبح هذا الفهم وهذه الفكرة أو هذا الحكم حقيقة، أي تتحول هذه الفكرة لحقيقة في حال واحدة، وهي انطباقها على الواقع...! وهنا أقول حالة واحدة فقط هي التي تتحول الفكرة أو الفهم فيها إلى حقيقة وهي في حال انطباقها على الواقع المدرك المحسوس... أو المحسوس أثره!! وبالرغم من أن الواقع على نوعين: إما مادي محسوس هو أو أثره، وإما واقع فكري حسي أو نصي... وفي كلا النوعين هو واقع واحد، حتى وإن كان في الواقع الفكري سواء الحسي الشعوري، أو حتى النصي الذي قد يحمل وجوها عدة لفهمه... إلا أنه في النهاية هو واقع واحد. ومهما تعددت الأفهام، فلا ينطبق على الواقع إلا فهم واحد. وعليه يتضح لنا أن الحقيقة واحدة لأن الواقع واحد لا غير!! أما اعتبار تعدد الأفهام حقائق فهو أمر خارج عن ذات الواقع "الذي يقع عليه البحث"، وإنما مرد هذا اللَّبس محصور في أحد أمرين أو كليهما:
أولًا: قصور أركان العملية الفكرية سواء في "ضعف في الحواس الناقلة لصورة الواقع للدماغ"، أو في "عدم توافر معلومات سابقة كافية فيما يخص موضوع الواقع المبحوث"، أو خلل "هلوسات" وضعف في القدرات الذهنية للربط بين المعلومات!
ثانيًا: عوامل خارجة عن ذات العملية الفكرية الموصلة لذات الفهم...! أي عوامل تحرف العملية العقلية للبحث والفهم عن مسارها الطبيعي الموصل للنتيجة والفهم المطابق للواقع، أي عوامل خارجة عن ذات العملية الموصلة للفهم تمنع انطباق الفهم على الواقع، وبالتالي يمنع هذه الفكرة، وهذا الفهم عن أن يصبح حقيقة.
ومن هذه العوامل الخارجة عن ذات الفهم والمحرفة للنتيجة النهائية للعملية الفكرية، وأبرز هذه العوامل وقد يكون أُس هذه العوامل هو وضع نتيجة مسبقة قبل البدء بالبحث والتفكر، والتقيد والإصرار على هذه النتيجة مهما كانت نتيجة العملية الفكرية... أي اللاموضوعية في البحث..!!! ومن أسباب وجود اللاموضوعية هذه قد يكون الكبر أو الدجل، أو النصب، أو الاحتيال، أو الشعوذة، أو النعرة العصبية، أو حتى اللامبالاة، أو الخوف أو الكسل!! وبذلك يبطل اعتبار تعدد الأفهام دليلًا على تعدد الحقائق ونسبيتها، لارتباط الحقيقة بالواقع ارتباطًا انطباقيًا، وطالما أن الواقع واحد، واحد كامل، فإن الحقيقة لا تكون إلا واحدة، ولا تكون نسبية، وإنما تعدد الأفهام في هذه الحالة مؤشرٌ على ضرورة مراجعة الفهم، والعملية الفكرية الموصلة له، حتى يتم انطباق الفهم على الواقع فيصبح الفهم وقتئذ حقيقة.
وهكذا نجد أن الحقيقة هي واحدة، وهي مطلقة؛ لأن الواقع واحد ومطلق، وليس نسبيًا في شيء من حيث وجوده وعدمه وحتى تفاصيله!! قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾. [يونس: 76-77]
وبذلك بقي في جعبتنا أمر لا بد أن يُصدح به وهو يخص تناقض حجة القائلين بهذه القاعدة والمنظرين لها والجاعلين نسبية المعرفة والحقيقة أساسًا لهم في آلية الفكر والتفكير ومحاكمة الآخر - أفكاره ويقينه بها -!!! فمما لا شك فيه أن القائلين بهذا الرأي هم في حد ذاتهم بطرحهم وبمنهجيتهم هذه يخالفون فحوى فكرتهم...!! بحيث إن قولهم هذا هو في حد ذاته تعامل مع الفكرة على أساس أنها حقيقة مطلقة، يبتنى عليها ويدعى لها، وما عداها باطل ينكر ولا يقبل!!! وهذا هو عين تناقض حجية فكرة نسبية الحقيقة، عندما يكون القائل بها يتعامل مع هذه الفكرة على أساس كونها حقيقة مطلقة! ولسان حاله لا يرى آلية في البحث والتفكير صحيحة (أي لا يرى الحق) إلا ما ذهب إليه هو بهذه الفكرة.
أضف إلى ذلك مسألة وهي لو قلنا أن قولهم قصدوا به تعدد الفهم واستحالة وجود فهم ينطبق على الواقع بشكل كلي بحيث يكون الفهم نسبياً للواقع وبالتالي الحقيقة عندهم نسبية على أساس ضعف قدراتهم في تحقيق فهم كامل للواقع!! إذًا يكون الرد على من أقر بضعف قدراته الذهنية الموصلة لفهم كامل للواقع أن يلجأ لمن عنده القدرة على البحث بجد وجدية عن الفهم الكامل المطابق للواقع، ولا يضع نفسه موضع المنظر عن جهل هو مقر به!! بل عليه التواضع لمن يعلم ويسأل عما أشكل عليه فهمه ويتبع الحق فور التوصل إليه. قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ قُلْ اللَّه يَهْدِي لِلْحَقِّ أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾. [يونس: 35]
وفي خاتمة محاور البحث وجب تبيان ما قد يشتبه فيه فيما يخص نظرية نسبية الحقائق والاختلاف في مذاهب فهم النصوص الشرعية في التشريع الإسلامي، مما قد يفهم من الإقرار بصحة اختلاف المذاهب تأكيدًا ودلالةً على صحة النظرية، والآلية الفكرية المتمثلة بنسبية الحقائق.
إن النصوص الشرعية إما أن تكون قطعية لا تفهم إلا على وجه واحد، أو ظنية تكون حمالة أوجه في الفهم... والظنية تكون إما لظنية ثبوت النص أو لظنية دلالته اللغوية... وهذه النصوص الشرعية عامة يؤخذ منها لما هو عقيدة متعلق بتصديق جازم لإثبات أو لنفي خبر ما، وكذلك لما هو حكم شرعي متعلق بأفعال العباد... أما العقيدة فلا تؤخذ إلا من النصوص القطعية التي لا تُفهِم إلا معنىً واحدًا، وتكون بانطباق هذا المعنى على الواقع حقيقة قطعية وعقيدة.
أما الأحكام الشرعية فتؤخذ من نصوص الوحي سواء القطعية منها أو الظنية، ويكون الفهم الشرعي للنص الظني ضمن ضوابط وقواعد الشرع واللغة، وهي شروط يجب تحققها فيمن يخوض في هذا الغمار "أي المجتهد" وتكون صحة الفهم محددة بالتقيد بشروط الاجتهاد، ونصوص الوحي وتحقيق مناط الحكم "أي الواقع الذي نزل له الحكم"، وقد جعل الشرع للعباد أن يتعبدوا الله بفهم المجتهد، وتكون صحة الاجتهاد هي معيار القبول أو الرفض للاختلاف في الأفهام والمذاهب... وهذا موضوع لا علاقة له بنسبية الحقيقة حيث إن الحقيقة واحدة لكل مسألة، وعلمها عند الله وحده، ولكن ما يعنينا هو صحة الاجتهاد الذي هو لنا الحق باعتبار انطباق فهم المذهب والمجتهد على واقع الشروط الشرعية في الاجتهاد والاستنباط، لا في ظنية الحكم المستنبط الذي لا يطلب فيه إلا غلبة الظن في الفهم. «إنّ المجتهد إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد».
وختامًا نلخص المقال بخلاصة جلية وهي: أن الاحتجاج بنسبية المعرفة مغالطة خبيثة، وخديعة مقيتة لتمرير أُكذوبة نسبية الحقيقة المعطِّلة للعقل، والفاتحة لباب الإجرام، وفرد العضلات بدل الاحتكام للفكر، بل هي دعوة لنبذ العقل بالإحجام عن التفكير، ورد الخصومات إلى شريعة الغاب، وتأصيل وترسيخ لوحشية وإرهاب فكرة البقاء للأقوى.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ: ياسر أبو خليل - الأردن