الخميس، 26 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اختلالات اقتصادية أم اختلالات مبدأ؟

 

أجمع عدد من الخبراء، يوم الثلاثاء، على وجود تحديات اقتصادية ينتظر أن تواجه الحكومة المدنية خلال الفترة الانتقالية، وأشاروا إلى الاختلالات الاقتصادية الكبيرة، لكنهم أكدوا أن الاقتصاد السوداني قابل للتعافي بحلول جذرية عاجلة ليلحق بركب الاقتصادات الإقليمية المزدهرة حوله. (شبكة الشروق، 21 آب/اغسطس 2019م).

 

ظلّ السودان منذ الاستقلال يبحث لنحو نيف وستين عاماً عن نظام سياسي مستقر دون جدوى، فقد تعاقبت على حكمه أنظمة عسكرية وثلاثة أنظمة ديمقراطية، طبقت جميعها النظام الرأسمالي الاقتصادي لم تستمر في الحكم كثيرا حتى تدهورت الأوضاع الاقتصادية وزادت الأزمات.

 

وها هو السودان يحتفل السبت 17 آب/أغسطس 2019 ببدء تنفيذ الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه بين المجلس العسكري وقادة الحركة الاحتجاجية بهدف الانتقال إلى الحكم المدني، الذي يأمل المحتفلون أن يجلب لبلدهم مزيداً من الازدهار الاقتصادي وذلك بتطبيق بنود الوثيقة الدستورية المتفق عليها كما برز اسم الخبير الاقتصادي المرشح الوحيد لتولي رئاسة الوزراء عبد الله حمدوك وهو الأمين العام السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، عملَ كخبيرٍ اقتصادي وخبيرٍ في مجال إصلاح القطاع العام، والاندماج الإقليمي وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديمقراطية، أملا في أن ينقذ السودان بهذه الكفاءة والعلاقة الوثيقة بالمنظمة العالمية من التردي الاقتصادي غير المسبوق.

 

وقد نصت الوثيقة الدستورية على أن تُكلَّف الحكومة الانتقالية لإعداد إصلاحات اقتصادية ووضع أسس سياسة خارجية متوازنة، كما وصفت الوثيقة جمهورية السودان بأنها "دولة ديمقراطية، تعددية، لا مركزية تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز" ولا يمكن تحقيق المجتمع الديمقراطي بهذه الصيغة المنصوص عليها في الوثيقة إلا بفصل الدين عن الدولة والسياسة واعتباره شأنا خاصا وعقيدة فردية ليس لها علاقة مباشرة بشؤون المجتمع كما تتبنى الديمقراطية الحريات العامة ومنها حرية التملك التي تعتبر جزءاً جوهرياً في النظام الاقتصادي الرأسمالي.

 

هذه اللمحات تؤكد أن الفترة الانتقالية لن تأتي بحلول للمشكلة الاقتصادية خارج منظومة الرأسمالية الاقتصادية وهي نفسها الحلول التي كانت قائمة في عهد الحكومات السابقة، وهذا يعني أن النظام الرأسمالي الاقتصادي سيستمر تطبيقه في السودان حتما، فالدولة الديمقراطية المنصوص عليها في الوثيقة هي الدولة العلمانية التي تطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي حصراً.

 

وستكون الإصلاحات الاقتصادية المطروحة من الحكومة الانتقالية لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية المتردية هي نفسها حلول العهود البائدة، وهي مزيد من القروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلا أن هذه المرة ستكون عبر خبرة رئيس الوزراء الذي سيحولها بعصا سحرية إلى (صدقات وهبات من تلك المنظمات الربوية) هذه المنظمات الربوية التي أسقطت السودان في دوامة الديون المتراكمة والربا المضاعف الذي فاق 55 مليار دولار، ومع الشروط القاسية التي تفرضها روشتات صندوق النقد الدولي التي ستؤدي إلى زيادة الإتاوات والضرائب والجمارك لزيادة الإيرادات، مع رفع الدعم عن السلع الأساسية، وهذا ما يزيد الفقر وضنك المعيشة الذي ظل السودان يعاني منه وسيبقى، وقطعا هذه الأزمات الاقتصادية في السودان ليست أمراً عابراً وذلك أن مشاكل العجز بأنواعه والتضخم والبطالة والمديونية والفقر والركود وتآكل الأجور وغيرها… كانت ولا زالت جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الاقتصادي في السودان على اختلاف النسب والتفاصيل بين حكومة وأخرى لا فرق فيها بين حكومة عسكرية أو مدنية.

 

إن المشكلة الأساسية تكمن في الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية نفسها، هذه الفلسفة القاصرة التي ترى أن المشكلة الاقتصادية إنما هي مشكلة ندرة وسائل الإشباع بالنسبة للحاجات، وبالتالي هي مشكلة إنتاج وزيادة إنتاج، وهو ما يجب التركيز عليه، فكانت مؤشراتهم للاقتصاد هي مؤشرات الإنتاج كمعدل النمو والناتج القومي والناتج المحلي وغيرها هي المؤشرات الأساسية، والذي حصل عندهم أنه بدل أن يكون البحث في الإنسان وحاجاته ووسائل إشباعها وأن يكون بحث الإنتاج تبعاً لذلك، بدل ذلك ضاع الإنسان وحاجاته في ثنايا بحث الإنتاج، وتحول الأمر إلى بحث في الإنتاج غرضه تعظيم الأرباح لا إشباع الحاجات، ثم ما لبث الأمر أن تحول إلى بحث في الأرباح بمعزل عن الإنتاج، ولذلك صرنا نرى أسواق المال وما يعرف بالاقتصاد الوهمي وصارت النقود تلد النقود أما الإنسان فلا مكان له في هذا الاقتصاد الرأسمالي إن لم يكن مساهما في عجلة الإنتاج فستدوسه هذه العجلة لتتخلص من عبئه.

 

إن النظام الرأسمالي، الذي يبيح التملك كيف كان، ويترك العنان للرأسماليين والمضاربين لاحتكار مزيد من الأموال وتضخيم ثرواتهم على حساب عامة الناس فيزيد الغني غنى ويزيد الفقير فقرا، أثبت هذا النظام فشله وأنه يحمل بذور الفشل معه أينما طبق، وها هي أمريكا صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم، وقعت عام 2008م في أزمة اقتصادية مدمرة نتيجة لآليات نظامها الاقتصادي الرأسمالي، وجرّت وراءها جميع دول العالم لتقع هي الأخرى فريسة هذه الأزمة، لتصبح أزمة اقتصادية عالمية بامتياز. وقد أكلت هذه الأزمة الأخضر واليابس، وأوصلت عشرات الآلاف من الشركات إلى الإفلاس وعشرات الملايين من العمال إلى البطالة، وما زالت أمريكا ودول العالم تعاني من هذه الأزمة ولم تتعافَ منها، رغم الخطط والاستراتيجيات الشاملة التي وُضعت لإنعاش الاقتصاد والنهوض به.

 

والسبب في فشل كل هذه الحلول والخطط في إنعاش الاقتصاد والتغلب على الأزمة هو كونها مأخوذة من النظام الرأسمالي الوضعي نفسه الذي أوجد هذه الأزمة وتسبب فيها، فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولقد أصبح مفكرو الغرب أنفسهم وكبار رأسمالييهم يشككون في نجاعة الحلول المطروحة، ويقولون إن هذه الحلول إن نجحت، فستساهم في تأجيل الانهيار فحسب، أما أن تحل المشاكل حلاً جذرياً فهذا ما لن تنجح فيه.

 

 ومن المستغرب أن يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي في بلادنا وتصر الحكومات المتعاقبة عليه كأنه لا بديل له! وفي الوقت نفسه نجد بعض علماء الاقتصاد المعاصرين ومنهم جاك أوستري اعترفوا أخيراً بأن الاقتصاد الإسلامي هو النظام الذي يحقق للإنسان السعادة والكفاية، وكذلك عالمة الاقتصاد الإيطالية لوريتا نابوليوني التي قالت صراحة إن هذه الأزمة الاقتصادية في 2008م ما كانت لتحدث لو طُبقت قوانين الاقتصاد الإسلامي، وحتى الفاتيكان، معقل الكنيسة الكاثوليكية، دعا في إحدى مقالات جريدته الرسمية "أوسيرفاتوري رومانو" البنوك الغربية الاتجاه إلى الاقتصاد الإسلامي لتجنب مثل هذه التداعيات الاقتصادية الخطيرة.

 

وفي الإطار ذاته ولكن بوضوح وجرأة أكثر طالب رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فاينانس) رولان لاسكين في مقال له بعنوان "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق الشريعة الإسلامية"، طالب بضرورة "تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة".

 

إذا كان غير المسلمين توصلوا بالتجربة إلى أن التشريع الإسلامي هو الحل لنظام المضاربات الوهمية في الكثير من السندات العقارية والأوراق المالية والتي أصبحت من خلالها النقود مجرد سلعة جامدة تباع وتشترى دون أن تدخل في العمليات الإنتاجية الملموسة بإحياء الأراضي الزراعية وإنشاء المصانع ليتوصلوا إلى أن نظام الاقتصادي الإسلامي هو النموذج الصالح لحل الأزمات، فما بال أبناء الإسلام لا يتبنون دينهم لحل مشاكلهم الاقتصادية ويصرون على نظام لفظه أهله وبحثوا عن البديل؟!

 

إن الاقتصاد في نظام الإسلام يحتوي على نظام ملكيات تعجز عنه الأنظمة الوضعية الرأسمالية، حيث يجعل الإسلام المال دولة بين الناس جميعاً ليس بالعمل فقط، فهناك الملكية العامة وملكية الدولة والملكية الفردية، ويحرم النظام الاقتصادي في الإسلام الربا بصنوفه قليله وكثيره، كما يحض على التعاون والإنتاجية وعدم استغلال البشر لبعضهم البعض أو أن ينتهز أحدهم حاجة الآخر، وأن تكون النقود مصدراً للدورة الإنتاجية واستمرارية دورة الحياة لا أن تكون النقود سلعة بحد ذاتها. إن النظام الاقتصادي في الإسلام تجاوز بكثير مسألة أن يكون طرحاً فكرياً مجرداً، بل إنه بات مع أنظمة الإسلام الأخرى مشروعاً لنهضة الأمة يعمل عليه المخلصون من أبنائها ليل نهار حتى تعود إلى تنظيم شؤون الحياة مرة أخرى لتنقذ العالم من براثن الرأسمالية.

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

الأستاذة/ غادة عبد الجبار - أم أواب

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع