الخميس، 26 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

مع الحديث النبوي الشريف كنت لك كأبي زرع لأم زرع ج2

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نُحيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:


رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً: فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا. قَالَتْ الرَّابِعَةُ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لاَ حَرٌّ وَلاَ قُرٌّ وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَةَ».كَلَيْلِ تِهَامَة: (بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتحِ الهَاءِ وَالمِيمِ) مُشتَقٌّ مِنَ التَّهَمِ؛ وَهُوَ شِدَّةُ الحَرِّ وَرُكُودُ الرِّيحِ.

 

تِهَامَةَ هُوَ كُلُّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلادِ الحِجَازِ. وَهَذَا مِنْ ضَرْبِ المَثَلِ بِلَيلِ تِهَامَةَ فِي الطِّيبِ؛ لأنَّهَا بِلادٌ حَارَّةٌ فِي غَالِبِ الزَّمَانِ, وَلَيسَ فِيهَا رِيَاحٌ بَارِدَةٌ فَإِذَا كَانَ الَّليلُ كَانَ وَهْجُ الْحَرِّ سَاكِنًا فَيَطِيبُ الَّليلُ لأهلِهَا بِالنِّسبَةِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ أذَى حَرِّ النَّهَارِ. فَوَصَفَتْ زَوجَهَا بِجَمِيلِ العِشْرَةِ وَحُلْوِ الشَّمَائِلِ وَلِينِ الجَانِبِ، وَاعتِدَالِ الحَالِ وَسَلامَةِ البَاطِنِ وَخُلُوِّهِ مِنَ الأذَى؛ لأنَّهُ عَادَةً يَكُونُ فِي الْحَرِّ وَالبَردِ، فَلا مَكرُوهَ عِندَ زَوجِهَا، وَهِيَ آمِنَةٌ عِندَهُ لا تَمَلُّ صُحْبَتَهُ وَلا تَخَافُ شَرَّهُ وَلا تَسأمُ قُربَهُ، لَذِيذةُ العَيشِ مَعَهُ كَلَذَّةِ أهْلِ تِهَامَةَ بِلَيلِهِمُ المُعتَدِلِ.


قَالَتْ الْخَامِسَةُ: «زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ, وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ, وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ». إِنْ دَخَلَ فَهِدَ, وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ : الفَهِدُ حَيوَانٌ مَعرُوفٌ، وَالجَمْعُ فُهُودٌ ثُمَّ يُستَعَارُ، يُقَالُ: فَهِدَ الرَّجُل؛ غَفِلَ عَنِ الأُمُورِ؛ لأنَّ الفَهِدَ نَؤُومٌ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: شَبَّهَتهُ بِهِ تَغَافُلاً وَإِغضَاءً وَسُكُونًا، وَقِيل: وَثَبَ عَلَيَّ وُثُوبَ الفَهْدِ, وَهُوَ سَرِيعُ الوُثُوبِ. وَالمَعنَى: أنَّها وَصَفَتهُ بِأنَّهُ كَرِيمُ الطَّبعِ، حَسَنَ العِشْرَةِ، لا يَلتَفِتُ إِلَى جَانِبِ البَيتِ, وَلا يَطلُبُ مَا فُقِدَ مِنهُ لِسَخَاوَةِ نَفسِهِ، فَكَأنَّهُ غَافِلٌ وَسَاهٍ عَنْ ذَلِكَ، فَوَصَفَتهُ بِالغَفلَةِ عَلَى وَجْهِ المَدْحِ لَهُ، وَشَبَّهتْهُ بِالفَهْدِ؛ لأنَّهُ يُوصَفُ بِالحَيَاءِ وَقِلَّةِ الشَّرِّ وَكَثرَةِ النَّومِ، وَإِنْ خَرَجَ بَينَ النَّاسِ كَانَ مِقدَامًا فِي الغَزْوِ نَشِيطًا شُجَاعًا كَالأسَدِ. وَقِيلَ: يُحتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعنَى فَهِدَ عَلَى المَدْحِ وَالذَّمِّ بِمَعْنَى وَثَبَ. فَالمَدِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى كَثرَةِ جِمَاعِهِ لَهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيهَا، وَيَنطَوِي تَحْتَ ذَلِكَ تَمَدُّحُهَا بِأنَّهَا مَحبُوبَةٌ لَدَيهِ بِحَيثُ لا يَصبِرُ عَنْهَا إِذَا رَآهَا. وَالذَّمُّ مِنْ جِهَةِ غِلَظِ طَبعِهِ عِندَ المُضَاجَعَةِ، فَلَيسَ عِندَهُ مُدَاعَبَةٌ, بَلْ يَثِبُ وُثُوبًا كَالوَحْشِ, أو مِنْ جِهَةِ سُوءِ خُلُقِهِ فَيَبطِشُ بِهَا وَيَضرِبُهَا، وَإِذَا خَرَجَ إِلَى النَّاسِ كَانَ أمرُهُ أشَدَّ فِي الجُرأةِ وَالإِقدَامِ وَالمَهَابَةِ وَقَولُهَا: «لا يَسْأَلُ عمَّا عَهِدَ». يَحتَمِلُ المَدْحَ وَالذَّمَّ أيضًا، فَالمَدْحُ بِمَعنَى أنَّهُ شَدِيدُ الكَرَمِ، كَثِيرُ التَّغَاضِي، لا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ وَلا يَسألُ عَنهُ، وَلا يَلتَفِتْ إِلَى مَا يَرَى فِي البَيتِ مِنَ المَعَايِبِ بَلْ يُغضِي وَيُسَامِحُ. وَيَحتَمِلُ الذَّمَّ بِمَعنَى أنَّهُ غَيرُ مُبَالٍ بِحَالِهَا حَتَّى لَو عَرَفَ أنَّهَا مَرِيضَةٌ أو مُحْتَاجَةٌ، وَأكثَرُ الشُّرَّاحِ حَمَلُوا كَلامَهَا عَلَى المَدحِ.


قَالَتْ السَّادِسَةُ: «زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيُعْلَمَ الْبَثَّ». لَفَّ: إِذَا أكَلَ لَفَّ؛ أي جَمَعَ وَخَلَطَ مِنْ صُنُوفِهِ حَتَّى لا يَبقَى مِنُه شَيءٌ. اشْتَفَّ: الاشتِفَافُ فِي الشَّرَابِ؛ أنْ يَستَقْصِيَ مَا فِي الإِنَاءِ، وَلا يُبقِي مِنهُ شَيئاً. التّفَّ: أي إِنْ رَقَدَ تَلَفَّفَ فِي ثَوبٍ وَنَامَ نَاحِيةً عَنهَا. البَثُّ: هُوَ تَفرِيقُ الشَّيءِ وَإِظهَارُهُ، وَبَثَثْتُ الحَدِيثَ أي نَشَرْتهُ. وَالمَعنَى: أنَّهَا وَصَفَتْ زَوجَهَا بِالنَّهَمِ وَالشِّرَةِ، وَالُّلؤْمِ وَالبُخْلِ، وَسُوءِ المُرَافَقَةِ وَالعِشْرَةِ, وَقِلَّةِ الشَّفَقَةِ عَلَيهَا، وَأنَّهُ لَو رَآهَا عَلِيلَةً لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي ثَوبِهَا لِيَجُسَّهَا مُتَعَرِّفًا لِمَا بِهَا كَعَادَةِ الأجَانِبِ (أيِ الغُرَبَاءِ) فَضْلاً عَنِ الأزوَاجِ، أو هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ زُهدِهِ فِي النِّكَاحِ، إِذْ هُوَ يَلْتَفُّ فِي اضطِجَاعِهِ مُجَانِبًا لِهَا لا يُدنِيهَا مِنهُ, وَلا يَكُونُ مِنهُ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ فَيُشْعِرُهَا بِمَحَبَّتِهِ، فَكَانَ وَصْفُهَا لَهُ مَذَمَّةً لَهُ، فِإِنَّ العَرَبَ تَذُمُّ بِكَثرَةِ الأَكلِ وَالشُّربِ, وَتَتَمَدَّحُ بِكَثرَةِ الوِقَاعِ.


من فوائد الحديث:


1. فِيهِ تَفَاوُتُ الأزْوَاجِ فِي السَّجَايَا وَالطِّبَاعِ، فَمِنْهُمْ ذُو الطَّبِيعَةِ السَّبُعِيَّةِ الغَضَبِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى البَطْشِ وَالإِقدَامِ مَعَ الُّلؤْمِ وَالدَّنَاءَةِ؛ وَمِنهُمْ ذُو الطَّبِيعَةِ الحَيوَانِيَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الَّتِي تَدْفَعَ صَاحِبَهَا إِلَى إِشبَاعِ رَغبَاتِهِ المَادِّيَةِ مَعَ البُخْلِ وَالأنَانِيَّةِ، فِي المأكَلِ وَالمَشرَبِ وَنَحوِهِمَا؛ وَمِنهُمْ ذُو الطَّبِيعَةِ الخَيرِيَّةِ النَّديَّةِ الَّتِي تَحَثُّ صَاحِبَهَا عَلَى كَرِيمِ الشَّمَائِلِ وَالتَّنائِي عَنِ الرَّذَائِلِ. وَقَد يَكُونُ لِطَبِيعَةِ الأَرضِ وَأجوَاءِ البِلادِ دَورٌ فِي رَسْمِ مَعَالِمِ الشَّخصِيَّةِ، وَقَولِ إِحدَاهُنَّ: "كَلَيلِ تِهَامَةَ".. وَهِيَ بِلادُ الحِجَازِ المَعرُوفَةُ تَشبِيهًا بِجَوِّهَا الهَادِئِ المُعتَدِلِ لَيلاً .. مَعَ لُيُونَةِ نَسِيمِهِ.. وَرُطُوبَةِ هَوَائِهِ. وَالأزوَاجُ رُبَّمَا يَتأثَّرُونَ بِهَا فَيَتَّسِمُونَ بِدَمَاثَةِ الخُلُقِ وَلِينِ العَرِيكَةِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّبر, وَرِعَايَةِ الزَّوجَةِ بِدَلالٍ غَامِرٍ وَحُبٍّ ظَاهِرٍ، بَينَمَا تُؤَثِّرُ المَنَاطِقُ الصَّحرَاوِيَّةُ الجَافَّةُ عَلَى نَفْسِيَّاتِ أهْلِهَا! ألا تَرَى المِزَاجَ يَرُوقُ وَتهدَأ النَّفْسُ في أوقَاتِ المَسَاءِ أكثَرَ مِنَ الظَّهِيرَةِ؟! وَفي فَصْلِ الرَّبِيعِ أكْثَرَ مِنْ فَصْلِ الصَّيفِ؟!


2. وَفِيهِ صَبْرُ جَمَاعَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسوَةِ عَلَى سُوءِ طِبَاعِ أزوَاجِهِنَّ وَدَنَاءَةِ أخَلاقِهِمْ وَشِدَّةِ جَفَائِهِمْ حِفَاظًا عَلَى جَمِيلِ العَهْدِ، وَوَفَاءً لَهُمْ بِالوُدِّ وَرِعَايَةً لِلبَيتِ وَالَولَدِ. وَرُبَّمَا كَانَ لِشَظَفِ العَيشِ وَعِزَّةِ المَادَّةِ أثَرٌ في ذَلِكَ الجَلَدِ، فَلا تَجِدُ المَرأةُ بُدًّا مِنَ اصطِبَارِهَا عَلَى ذِي الرَّذَائِلِ وَالعِلَلِ، مُكْرَهَةً عَلَيهِ مُرغَمَةً خَاضِعَةً. أو أنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِسَبَبِ النَّظرَةِ العَامَّةِ السَّائِدَةِ فِي أوْسَاطِ النَّاسِ مِنْ تَقدِيسِ رَابِطَةِ العَلاقة الزَّوجِيَّةِ وَتَهوِيلِ شَأنِهَا وَالاهتِمَامِ بِالبَيتِ وَالذُّريَّةِ.


احبتنا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَلِلحَدِيثِ تَتِمَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

 



كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع