الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

مقالة الأوضاع السياسية في مصر في ظل ما يسمى بثورات الربيع العربي

  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 


الحمد لله, والصّلاة والسّلام على رسول الله, وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدّين, واجعلنا اللّهمّ معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.


الإخوة الكرام: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موضوع حلقتنا لهذه اللّيلة بعنوان: "الأوضاع السّياسيّة في مصر في ظلّ ما يسمّى بثورات الرّبيع العربيّ".


تشهد المنطقة العربيّة حراكًا متميّزًا لخلع الأنظمة الفاسدة التّابعة للأجنبيّ, تلك الأنظمة التي أرهقت الأمّة, واستنزفت خيراتها, ودمّرت مقدّراتها, وجعلتها لقمةً سائغةً لمن اشتهى من أعدائها, وفيما نجح بعض الثّائرين في إسقاط العروش المهترئة, إلاّ أنّ عمليّة التّغيير التي تجري بحماسٍ كبير, تفتقد وتفتقر إلى رؤيةٍ واحدةٍ واضحةٍ محدّدة, نابعةٍ من عقيدة الأمّة وثقافتها وتراثها.


لقد خرجت جموع المصريّين بالملايين, وبشكلٍ متصاعد, وبوتيرةٍ سريعة, في صورةٍ من أندر صور التّاريخ البشريّ, مثبتين أنّ مصر هي كنانة الرّجال, في صورةٍ جعلت قلوب مسلمي العالم, تهفو إليهم, وتدعو الله أن يهيّء لهذه الجموع الهائلة, قيادةً واعيةً وحكيمةً ومخلصةً لله تعالى, تقيم حكم الله, ليس في مصر وحدها, بل في العالم كلّه. كانت ثورة الشّعب عفويةً ذاتيّة, ولم يكن لها قيادة, ولا مشروعٌ محدّد, ولا رؤيةٌ واضحة, سوى هدفٍ واحدٍ محدّد, وهو إسقاط النّظام, ولم يتوقّع أحد, أن تنفجر الثّورة بهذه الصّورة, وأصيب الغرب بالقلق والإرباك, حيث لم يكونوا جاهزين لهكذا أحداث, هزّت العالم الإسلاميّ, وشغلت العالم كلّه.


الإخوة الكرام: نجحت الثّورة في كسب معركةٍ مع النّظام الحاكم, ولكنّها لم تكسب الصّراع بعد, حيث إنّ النّظام لم يسقط بالكامل, وإن سقطت واجهته السّياسيّة, فالنّظام في مصر, كان متمثّلاً في وجهين: الأوّل سياسيٌّ على رأسه مبارك, والآخر عسكريّ, يتمثّل بالمجلس العسكريّ, فقد كانوا شركاء في الحكم, وساذجٌ من يظنّ أنّ مبارك, كان يحكم دون دعم العسكر, فسنده ليس شعبيًا, وكلّ انتخاباته كانت مزوّرة, فكيف كان يحكم, أكثر من ثمانين مليون مصريّ, دون دعم كبار الجنرالات؟ لم يكن تخلّي أمريكا عن مبارك, بتلك السّرعة التي تمّت تحت ضغط الثّورة, إلاّ لأنّها كانت مطمئنّة, إلى أنّ الأمور لن تخرج من يدها, حين تنتقل السّلطة إلى المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة, فقامت أمريكا بالتّدريب والتّخطيط, فقد ظهرت وثيقةٌ أمريكيّة عقب تنحّي مبارك, تحدّثت عن خطّة أوباما, لإجهاض ثورة مصر, والتي تقوم على أساس حفظ نفوذ أمريكا, من خلال هيمنة المؤسّسة العسكريّة على الدّولة, وقد وضعت تكتيكاتٌ معيّنة, للسّير في هذه الخطّة على مرحلتين:


المرحلة الأولى: وتسمّى بالمرحلة الانتقالية, يتسلّم المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة, خلالها الحكم بشكلٍ مباشر, ويتمّ فيها إجراء تعديلاتٍ شكليةٍ على الدّستور, وانتخاباتٍ عاجلةٍ تضمن مساهمةً فعّالة, للتّيار الإسلاميّ في البرلمان, وقد تمّ استفتاءٌ على التّعديلات الدّستوريّة التي ترأّس لجنتها التّحضيريّة, المستشار "طارق البشريّ" المحسوب على التّيار الإسلاميّ, إضافةً إلى الشّخصيّة الإخوانيّة المعروفة, المحامي "صبحي الصّالح", فيما فهم منه, محاولةٌ لكسب ودّ التّيار الإسلاميّ, وقد تمّ تسويق الاستفتاء للرّأي العامّ حينها, على اعتبار أنّه تصويت, لصالح إبقاء المادّة الثانية من الدّستور, التي تنصّ على أنّ "الشّريعة الإسلاميّة, هي المصدر الأساسيّ للتّشريع", فكانت النّتيجة ثمانيةً وسبعين بالمئة بالموافقة, في مقابل اثنين وعشرين بالمئة بالمعارضة. وقد اعتبر المجلس العسكريّ, أنّ نتائج الاستفتاء الإيجابيّة, تمنحه ضمنيًا, الشّرعيّة اللاّزمة للاستمرار, بالتّحكّم في شؤون البلاد, إذ اعتبر الموافقة على التّعديلات, موافقةً على دوره في الحياة العامّة, وهو ما دفع المجلس العسكريّ إلى الإعلان, بأنّه لن يخضع لمطالب المتظاهرين بالتّنحّي عن السّلطة, سوى من خلال استفتاءٍ شعبيٍّ جديد, يطالب بترك السّلطة.


المرحلة الثانية: مرحلة النّظام الجديد: وتتعلّق باستنساخ النّموذج الباكستانيّ في مصر, حيث تقف المؤسّسة العسكريّة, وراء السّتار كسلطةٍ حاكمةٍ فعليًا, فيما تضع على المسرح التّيارات السّياسيّة الرائجة في المجتمع, وعلى رأسها التيّار الإسلاميّ, بشقّيه السّلفيّ والإخوانيّ, من خلال صفقاتٍ ظهرت تداعياتها جليّة, على السّاحة الإعلاميّة والفكريّة والسّياسيّة, في المرحلة الانتقاليّة, كما حاول اجتذاب النّخب العلمانيّة له, من خلال وثيقة المبادئ الأساسيّة للدّستور, التي تضمن علمانيّة الدّولة, تحت اسم الدّولة المدنيّة الدّيمقراطيّة, وبهذا نصّب المجلس العسكريّ نفسه وصيًا على الدّولة, وحكمًا على النّخب والتّيارات السّياسيّة, فمنح الإسلاميّين إمكانيّة العمل بشكلٍ مفتوح, في الشّارع والبرلمان والحكومة, شريطة بقائهم ضمن التّوجّهات السّياسيّة للعسكر, داخليًا وخارجيًا, وضمن للتيّار العلمانيّ, مشروع الدّولة العلمانيّة, من خلال تعهّده بالحفاظ على مدنيّة الدّولة, واعتبارها خطًا أحمر.


الإخوة الكرام: ومن أوضح الشّواهد, على أنّ المجلس العسكريّ, هو الوجه الآخر لنظام مباركٍ العميل لأمريكا, الشّواهد الآتية:


أولاً: حاول الجنرالات عدّة مرّات, إقناع الثّوار بترك الميدان, ولكن دون جدوى, حيث لم يجدوا سوى الثّبات والإصرار من قبل الثّوار, ولو أنّ الثّوار أظهروا ضعفًا, لكانت أخمدت ثورتهم.


ثانيًا: ثمّ إنّ الثّوار في الميدان لأيّامٍ وليال, تعرّضوا لعدوان بلطجيّة النّظام, ولكنّ الجنرالات لم يحرّكوا ساكنًا. ما أدّى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى, وحاول الجنرالات إخافة المعتصمين, من خلال تحليق الطّائرات الحربيّة, فوق رؤوسهم في ميدان التّحرير, وتمسّكوا بحكومة "أحمد نظيف", التي عيّنها مبارك لضرب الثّورة, ولم يقرّروا حلّها إلاّ تحت ضغط الشّارع.


ثالثًا: ولم يلغ قانون الطّوارئ, ما يعني أنّ المجلس العسكريّ, يحمل العقيدة الأمنيّة نفسها نحو الشّعب, ولم تجر أيّ إعادة, لبناء أجهزة الدّولة الأمنيّة, التي بناها نظام مبارك, على عقيدةٍ أمنيّةٍ شرّيرة.


رابعًا: تمّ اعتقال اثنين وعشرين ألف مدنيّ, في عهد المجلس العسكريّ الأوّل, وتمّ محاكمة أكثرهم أمام محاكم عسكريّة, بينما لم تجر محاكمة مباركٍ وأعوانه, إلاّ تحت ضغط الشّارع, وتمّت محاكمتهم محاكمةً صوريّة, أمام محاكم مدنيّة.


خامسًا: لم يلتزم المجلس العسكريّ بمدّة ستّة أشهر, التي وعد بتسليم السّلطة خلالها لسلطةٍ مدنيّة, وتعمّد تعميم الفوضى في البلاد؛ ليدفع النّاس للتّرحّم على عهد مبارك, ثمّ ارتكبت عدّة مجازر في عهد هذا المجلس, مثل مجزرة شارع محمّد محمود, ومجزرة مجلس الوزراء, ومجزرة استاد بور سعيد, التي أراد فيها زيادة الشّقاق بين المسلمين والأقباط, كما كان يفعل مبارك, ممّا يدفع مصر باتّجاه السّياسة الأمريكيّة, التي تعمل على تقسيم مصر.


سادسًا: ثمّ حاول المجلس وعبر وثيقة السّلمي, أن يمنح لنفسه سلطاتٍ واسعة, تجعله مطلق الصّلاحيّة, في تسيير البلاد, مع ديكورٍ انتخابيٍّ ينقلب عليه حين يشاء, وبالفعل وبأمرٍ من المحكمة الدّستوريّة, وبإشرافٍ من المجلس العسكريّ, تمّ حلّ مجلس الشّعب.


سابعًا: والأمر الأخطر من سياسة هذا المجلس, موقفه من الإسلام, حيث سعى إلى تضمين وثيقة السّلمي, مادّةً تقول بمدنيّة الدّولة أي بعلمانيّتها, ولم تتغيّر علاقته بكيان يهود, بل أعلن التزامه باتّفاقيّة كمب ديفد الخيانيّة.


ثامنًا: لقد أثبتت الشّهور التي حكم فيها المجلس العسكريّ, أنّه لا يكنّ لأهل مصر الحبّ والاحترام, ولا الشّعور بالمسؤوليّة عن حمايته, وأنّ عقيدته لم تتغيّر, تلك العقيدة, التي لا ترى الخطر في كيان يهود, ومن ورائه الأمريكان, بل كان يرى الخطر من أهل مصر الطّيبين, فقد فقئت العيون في عهده, وسحلت الجثث, وألقيت في المزابل, وانتهكت الأعراض, ودنّست المساجد, وتمّ إصدار قانون ما يسمّى, بكشف العذريّة عن النّساء المعتقلات, والذي أمر بذلك وأشرف عليه, وزير الدّفاع الحاليّ, ومدير المخابرات الحربيّة السّابق عبد الفتّاح السّيسيّ, ثم بعد ذلك أشرف على انتخاباتٍ رئاسيّة, كانت تحت رعايته هو وأمريكا, التي تحرّك كلّ شيءٍ في مصر آنذاك.


الإخوة الكرام: ووصل إلى الحكم جماعة الإخوان المسلمين, وإن شئت فقل: وصل إلى الحكم "الإسلام المعتدل", الذي تفتخر حركة الإخوان بتمثيله وريادته, مع كونه فكرًا غربيًا بقشورٍ إسلاميّة, فإنّ الدّور المرسوم غربيًا يتلخّص بإحلاله بديلاً عن الإسلام الحقيقيّ, المتميّز بنظامه السّياسيّ, وبمعالجاته الأخلاقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وشتّى شؤون الحياة. وعليه فإنّ أيّ إنجازٍ ممكنٍ لتيّار الإسلام المعتدل الذي رفع شعار: "الإسلام هو الحلّ" في ظلّ معطيات الواقع والقوى المتحكّمة فيه, لن يتحقّق إلاّ بعيدًا عن الإسلام, ما يعني أنّ الحلّ يمكن أن يكون غير إسلاميّ, على عكس الشّعار الذي رفع, وبالتّالي يتمّ به تكريس فصل الدّين عن الحياة. وفي حالة تعقّد الوضع وازدياد المشاكل وتراكمها, كما جرى فسيعزى ذلك إلى قصور الإسلام وعجزه, رغم أنّ الإسلام بريءٌ من التّجربة برمّتها جملةً وتفصيلاً.


هكذا صنع خصوم الإسلام, أصحاب الإسلام المعتدل, صنعوا الذّريعة, لإعلان فشل الإسلام كنظام حكمٍ من خلال التّجربة العمليّة, ولإسقاط شعار: "الإسلام هو الحلّ" بأيدي أصحابه الذين رفعوه, مع أنّ هذا الفشل ليس بسبب الإسلام, كما يصوّر الغرب وتنعق أبواقه, وإنّما بسبب تحريف الإسلام, وكتمان أحكامه الصّحيحة, أي بسبب تطويع هؤلاء للإسلام لينسجم مع الثّقافة الغربيّة, وبسبب التّصوّرات للحياة ولطريقة العيش, تلك التي تعتمد المصلحة النّسبيّة, كزاويةٍ لها في كافّة سياساتها ومعالجاتها.


الإخوة الكرام: والغريب أنّ الإسلاميّين قبلوا خوض التّجربة, على أسس وشروط وقوانين غيرهم, ممّا أدّى إلى ما نشهده من اضطرابٍ ومشاكل, وتنافرٍ بين مختلف القوى السّياسيّة. لقد وصل الإخوان المسلمون إلى حكم مصر, بعد أن نحّوا الإسلام جانبًا, واضطروا لقبول فلول الأنظمة السّاقطة ومخلّفاتها, ليشاركوهم في السّلطة وينافسوهم, بل ويبتزّوهم ويسلبوا منهم القرار, ويتحكّموا بدفّة حكم البلاد, في مرحلةٍ من أدقّ المراحل التي تمرّ بها. لم يحاول الإسلاميّون إحداث تغييراتٍ حقيقيّة, أو ذات بالٍ في الدّستور والقانون, وفي فلسفة الحكم وسياسات الدّولة, فأبقوا الدّولة بين فكّي من يفترسها من دولٍ غربيّةٍ طامعة, ومن مؤسّساتٍ دوليّةٍ تشلّ حركة البلاد, وتتحكّم بمصير العباد, وتحول بينهم وبين النّهوض والارتقاء, وتبقيهم عبيدًا للقوى الكبرى, قاموا بذلك بذريعة أنّ هذه الطريقة الممكنة للتّغيير, في ظلّ هيمنة الدّول الكبرى على الأوضاع في بلادنا, فكان جلّ ما قاموا به إجراء تعديلاتٍ دستوريّةٍ وقانونيّةٍ شكليّة, لا ترضي الله ولا عباده, ولا تعدو كونها محاولاتٍ رخيصة, كتلك التي يجريها أسلافهم البائسون, ومن الأمثلة على ذلك ما جعل رئيس مصر "محمّد مرسي", يتعهّد بالتزام كافّة المواثيق والعهود والاتّفاقات الدّوليّة, بما فيها كامب ديفد تلك الاتّفاقيّة, التي تقرّ وتحمي أمن يهود في فلسطين, مع الاحتفاظ بسفارتهم في قلب القاهرة وحمايتها, ومغازلة أحد قياديّي الإخوان البارز "عصام العريان", الذي يغازل اليهود, ويعرض عليهم العودة إلى مصر!


الإخوة الكرام: وبدأ الإخوان بالتّبرير, وإذا ما سئلوا عن الشّرعيّة, وعن تطبيق الإسلام قالوا: لا نستطيع ذلك, مصر جائعة, مصر مغزوّةٌ بالفقر والبطالة, مصر عاجزة, فيها علمانيّون, والكفر أقوى منّا ويحاربنا, ثمّ يمارسون الخداع والتّدليس بمغالطاتٍ وتحريفات, كمغالطة التّدرّج, فيقدّموا للنّاس مقاصدهم ورؤاهم وأهواءهم, على أنّها مقاصد للشّريعة, ثمّ تجاوزوا الأمر مسرعين, إلى مبادئ الشّريعة, واستلهام الشّريعة, وما إلى ذلك من تلبيساتٍ واحتيالات! فلماذا مبادئ الشّريعة؟ وكلّيات الشّريعة؟ ومقاصد الشّريعة؟ وحكمة الشّريعة؟ وليس الشريعة ذاتها؟ لماذا هذا الالتفاف والتّحايل على الشّريعة؟ لماذا هذه المواربة؟ ولماذا هذا الزّيغ والانحراف عن منهج الله؟


الإخوة الكرام: كلّ ذلك أدّى إلى خطف الثّورة من مصر, بل اختطفت مصر معها, ووضعت مصر دولةً وشعبًا بعد الثّورة, في قطار العلمانيّة الأمريكيّة, وفي مقطورةٍ اسمها الإسلام الوسطيّ أو المٌعتدل. إنّ الحكّام الذين حكموا باسم الإسلام المعتدل, أساؤوا لأنفسهم بالتّنصّل من تحكيم شرع الله؛ خوفًا من استعمارٍ هزيلٍ بدا ضعفه, واشتدّت أزماته. وأساؤوا للمسلمين بتضليلهم بأنّ لديهم بديلاً إسلاميًا, فاستدرّوا عواطف الجماهير المتعطّشة إلى الإسلام!


لقد بان مكر الغرب الكافر المستعمر, وحقده على الإسلام في كلّ عصرٍ, ولقد رأى جميع النّاس ما فعله في مصر, فالمستعمر منذ أن أسقط دولة الخلافة ومزّق الأمّة, لا يطيق سماع اسم الإسلام, ولا يطيق أن يرى أثرًا من آثاره, وبعد حكم صوريٍّ باسم الإسلام, حكم به الإخوان لمدّة عام, أثبت الواقع فشل سياستهم, ممّا جعل أمريكا تتدخّل هي وحليفها الاستراتيجيّ والوحيد في مصر, والذي تعتمد عليه دائمًا, واعتمدت عليه بعد سقوط مبارك, ألا وهو المجلس العسكريّ, فحدث ما كان متوقّعًا من الانقلاب العسكريّ, في الثّالث من تمّوز عام ألفين وثلاثة عشر ميلاديّة, بعد أن مهّد له من قبل المجلس العسكريّ والإعلام, وبعض المثقّفين العلمانيّين والأزهر.


فبعد مدارسةٍ كاملةٍ تبيّن لهم أنّ الحال في مصر, اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا, بعد الانقلاب زمن حكم الإخوان, لم يكن بأفضل ممّا كان عليه زمن مبارك, فقد عادت الدّولة البوليسيّة القمعيّة بوجهٍ كالح, وليس العدوّ هو الإخوان وحدهم, ولكنّ العدوّ هو كلّ من يخالف الانقلابيّين في مصر, حتّى وإن كان علمانيًا أو ليبراليًا أو إسلاميًا, فعزل محمّد مرسي ببيانٍ من رئيس الانقلاب عبد الفتّاح السّيسيّ, وبمباركة الأزهر والكنيسة, والمجلس الأعلى للقضاء, وحزب النّور السّلفيّ, ففرض حظر التّجوال, وتمّ تفعيل قانون الطّوارئ, وتمّ اعتقال أكثر من خمسة عشر ألفًا, من الشّباب والشّيوخ والأطفال, حتّى وصل الاعتقال إلى طلاب الجامعات, وأغلقت كثيرٌ من المساجد والزّوايا, وأحرقت الجثث والجرحى, وأحرق مسجد رابعة العدويّة, وحوصر مسجد الفتح بوسط القاهرة, ومسجد القائد إبراهيم بالإسكندريّة, وأصبحت القاهرة وكثيرٌ من المحافظات عبارةً عن ثكنةٍ عسكريّة, وخرج الأزهر وشيخه بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان. فتاوى تجيز قتل الإخوان ومن ناصرهم وأيّدهم, واعتبار أنّهم خوارج, بل وصل الأمر ببعضهم مثل الشّيخ أحمد كريمة, من علماء الأزهر إلى أن يقول: هؤلاء مرتدّون. وقد سمع جميع النّاس التّسريبات التي خرجت, من داخل الشّؤون المعنويّة للقوّات المسلّحة, بفتاوى علي جمعة, وسالم عبد الجليل, وعمرو خالد وغيرهم.


الإخوة الكرام: وأخيراً نخلص إلى أنّه لا يوجد إلا طريقةٌ واحدة, لإقامة الدّولة الإسلاميّة, ومن أهمّ مراحل هذه الطّريقة, هو طلب النّصرة من أهل القوّة والمنعة, فأهل القوّة في مصر هم قادة الجيش, وليس أحدٌ غيرهم, والأحداث الأخيرة والتي سبقتها أثبتت ذلك. فالجيش في مصر يعدّ القوّة والرّكيزة الأساسيّة للدّولة, والمهيمن عليها, كما يمنح الاقتصاد المصريّ للجيش, ما يقرب من أربعين في المئة من الميزانيّة, بحسب بعض الأبحاث, ولا يجرؤ أحد, فضلاً عن أنّه لا يحقّ له, مساءلة الجيش حول ميزانيّته؛ لذلك كان الجيش العامل الحاسم, في استقرار أيّ نظامٍ سياسيٍّ في مصر, ولهذا اتّخذته واشنطن, الرّكيزة الأساسيّة لحفظ نفوذها, وذلك بعد أن عملت على اختراقه مبكّرًا, حين كان انقلاب الضّباط الأحرار على الملك فاروق, عام ألفٍ وتسعمئةٍ واثنين وخمسين ميلاديّة. كما نجحت بإحكام قبضتها على الجيش بعد اتّفاقيّة كمب ديفد, بعد أن ربطته بها تمويلاً وتسليحًا وتدريبًا, بما مكّنها من إعادة تشكيله, وإدخال تغييراتٍ جوهريّة, على هويّته وبنيته وعقيدته, حيث عزلت واشنطن مصر, عن الصّراع العربيّ مع الكيان اليهوديّ, وأسقط اليهود من قائمة الأعداء, واستبدلت بعداوتهم عداوةٌ مفرطةٌ لتيّار الإسلام السّياسيّ, بذريعة محاربة الإرهاب, وصارت مهمّة الجيش تنحصر في إبقاء مصر تابعة لأمريكا, وفي محاربة ما يسمّى التّطرّف والإرهاب, والحفاظ على أمن يهود.


الإخوة الكرام: ولأهمّية دور الجيش, سارعت واشنطن بالتّضحية بحكم مبارك؛ لاستيعاب غضبة الجماهير, ولإبقاء الجيش متحكّمًا في المشهد السّياسيّ. كما أنّها تقوم بمتابعة شؤون الجيش المصريّ بشكلٍ منتظم, من خلال إدارة المنح العسكريّة السّنويّة الضّخمة, البالغة أكثر من مليار دولارٍ سنويًا, والتي تجعل من شركات الأسلحة والأمن الأمريكيّة, قادرةً على الاطّلاع التّام, على أوضاع الجيش والتّأثير في شؤونه. وقد عهدت بعد الانقلاب الأخير, الذي أطاح بحكم الإخوان, إلى وزير الدّفاع الأمريكيّ, ليكون قناة الاتّصال الرّئيسة, وبشكلٍ يوميٍّ مع وزير الدّفاع المصريّ, الذي يمسك بزمام الأمور.


الإخوة الكرام: لذلك كلّه كان لا بدّ لأيّ طرف, يبتغي ضرب النّفوذ الأمريكيّ في مصر, من كسب ولاء الجيش, أو العمل على تحجيمه في الدّولة وتحييده عن الحكم, وبهذا نجد أنّه من غير إعادة صياغة عقيدة الجيش المصريّ وهويّته وولائه, وتشكيلها بحسب مفاهيم الإسلام وأحكامه, ستبقى مصر خاضعةً للنّفوذ الأمريكيّ, وسيبقى الجيش مطرقةً بيد الغرب, يضرب فيها كلّ من يتصدّى لمشاريعه الاستعماريّة. نعم إنّ مصر اليوم مخطوفةٌ في قطارٍ أمريكيّ, وهي إمّا أن تذهب أبعد من ذلك, فتصبح كطائرةٍ أمريكيّةٍ بلا طيّار, تضرب بها أمريكا الإسلام هنا وهناك باسم محاربة الإرهاب, وحينئذٍ ستكون تكاليف عودة مصر لتكون كنانة الأمّة, وكنانة الإسلام, وكنانة الله في أرضه, ستكون تكاليف عودتها صعبةً جدًا, وداميةً جدًا! وإمّا أن يتذكّر من له من الأمر قولٌ أو باع, ويتبصّر أولوا التّقوى والنّظر ممّن لهم تأثيرٌ أو أتباع, فترجع مصر عاصمة الإسلام! وإنّ الأمل معقودٌ على ثلّةٍ من المؤمنين العاملين, أن يفتح الله سبحانه وتعالى عليهم وينصرهم, ويجزيهم خير الجزاء, وعلى خيرة أهل مصر أن تتّقد وتشتعل فتقلب الأمور رأسًا على عقب, وما ذلك على الله بعزيز, قال تعالى: (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون). (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين, وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين). صدق الله العظيم. نشكركم على حسن استماعكم, والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 


أخوكم صلاح الشافعي

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع