الجمعة، 27 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/29م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

فصلٌ في همِّنا الصادق "الخلافة"

بسم الله الرحمن الرحيم


كما يحلو له أن يسمي نفسه بالمفكر الإسلامي، خرج علينا الأستاذ فهمي هويدي لينصح الأمة الإسلامية بالاشتغال بالهموم الحقيقية، وعدم الانجرار وراء هموم يراها كاذبة، ويريد أن نراها نحن كما يراها هو همومًا كاذبة. فقد دَبَج مقالاً من العيار الثقيل على موقع الجزيرة نت بتاريخ 14/9، استهله بالقول { تروج في مصر هذه الأيام مجموعة من الأساطير والشائعات التي استدعت إلى فضائها ما يمكن أن نسميه بالهم الكاذب، الذي بات يخيف بعضنا من أشباح وعفاريت لا وجود لها }. ولعل الهم الأول والأبرز لهذا الرجل، والذي يراه هماً من هموم الأمة الكاذبة، هو الحديث عن عودة الخلافة الإسلامية، فهو يقول: { بعض تلك الأساطير وثيق الصلة بمستقبل الدولة وهويتها... ذلك أننا ما زلنا نقرأ تعليقات وتحليلات تتحدث عن إقامة الخلافة الإسلامية والدولة الدينية في مصر}، فالرجل يقول دون مواربة أن الحديث عن إقامة الخلافة الإسلامية هو حديث من أحاديث الأساطير، وإمعانا منه في تضليل القارئ يساوي بين الخلافة الإسلامية والدولة الدينية لينفر الناس منها، وليوهم القارئ أن الخلافة الإسلامية هي صنو الدولة الدينية التي كانت قائمة في أوروبا إبان العصور الوسطى، وشتان بين هذه وتلك، وهو يعلم جيدا ذلك، ولكن الرجل سادر في غيه.


ثم هو بعد ذلك يقول: { أدري أن بعض المتدينين مهوسون بمسألة الخلافة التي تشكل ركنا أساسيا في مشروع حزب التحرير الإسلامي الذي نشأ في الأردن عام 1953، لكن أعضاءه لا يكادون يتجاوز عددهم أصابع اليدين في مصر على الأقل }. وقبل أن أرد على الكاتب "الإسلامي" أنقل للقارئ الطامة الكبرى التي وردت في مقاله، إذ يقرر بكل صلف وكبرياء عهدناهما منه في كتاباته: {أما مسألة الدولة الدينية فإنها لا يستطيع أحد أن يأخذها على محمل الجد في هذا الزمان. لأنه لم يعد أحد يقبل فكرة القيادة التي تستند إلى الوحي أو الغيب في إدارة الدول}، ثم هو يقرر بعد ذلك أن {غاية ما يمكن أن يقال بحق المسألتين "الخلافة والدولة الدينية" هو أنهما من قبيل الأحلام التي تراود قلة استثنائية من الناس، إلى جانب أنه يتعذر تنزيلها على الأرض...}.


لعل الكاتب الهُمام يريد بمقاله هذا أن يصرف الأمة عن الإنصات والالتفاف حول دعاة الخلافة الذين أصبحت أصواتهم عالية في كل ربوع الدنيا، لقد اهتزت أركان عروش الغرب في بلادنا بتلك الأصوات التي تصدح صباح مساء، بترديدها (الأمة تريد خلافة إسلامية)، وارتعدت فرائص الغرب مما يجرى في سوريا، إذ الثورة هناك مختلفة، تُرفع فيها رايات العقاب لتبشرنا بعودة عز الأمة من جديد بعودة الخلافة على منهاج النبوة. لقد كان الأولى بالأستاذ هويدي أن ينضم للصوت العالي في الأمة اليوم المطالب بالحكم بالإسلام من خلال نظام الحكم الإسلامي الذي حدده الشرع لهذه الأمة وهو نظام الخلافة. أما أن يعتبره السيد هويدي {هماً كاذبًا} وضرباً من {الخيال والوهم}، فهذا يحتاج إلى تفسير من السيد "المفكر الإسلامي" ونحن نسأله: أهذا ما تعتقده فعلا أم أنك تقول ما لا تعتقد ممالأةً لمن يتخوف من إقامة الخلافة؟


فالحديثُ عن الخـلافة اليوم يعنى انتهاءَ سيطرةِ دولِ الغرب الكافر على العالمِ وانتهاءَ استعمارها له، وهو يعني كذلكَ الحديثَ عن مشروعٍ حضاريٍ قويِ الأوتادِ صلبِ الشكيمةِ يمثلُ تحدياً عالمياً للحضارةِ الغربيةِ بل بديلاً لها، ويعني الحديثَ عن نظامٍ عالميٍ جديد "نموذجٍ أيديولوجيٍ بديلٍ لليبراليةِ العلمانيةِ الغربية"، كما يعني أنك تتحدثُ عن كابوسٍ يقضُ مضاجعَ الغرب وباتَ يؤرقُهم في نومِهم ويقظتِهم، ويعني أيضا أنك تتحدثُ عن { إمبراطوريةٍ إسلاميةٍ شموليّةٍ ( كما يصرح بذلك زعماء الغرب) تغطّي أراضيَ الإسلامِ الراهنةِ والماضيةِ، لتمتدَ من أوروبا إلى شمال أفريقيا إلى الشرقِ الأوسطِ وإلى جنوبِ شرقِ آسيا } ما يجعلُها أهلاً لتولي قيادةِ العالمِ من جديد، والحديث عن الخـلافة يعني الحديثَ عن تطبيقِ الشريعةِ وتوحيدِ بلادِ المسلمين وقلعِ النفوذِ الاستعماري منها، وهو أمرٌ لا يُحتملُ لدى الدولِ الغربيةِ. فإذا كان كل هذا لا يخيف الكاتب الإسلامي، بل هو يطمح إليه ويتمناه فلينضم للعاملين لتحقيق هذا الواقع، ولتحقيق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعد الله تعالى، ولا يكون في صف الغرب المرتعب من صحوة الأمة وانتفاضتها المباركة التي ستسفر عما قريب عن بزوغ نجم الخلافة من جديد، وليُخرج نفسه من صف المضبوعين بالغرب وبثقافته وأنظمته العفنة التي أزكمت رائحتها الأنوف.


إن الخلافة ليست وهما ولا شبحا ولا عفريتا يا أستاذ هويدي، وهل شن قادة الغرب فيما مضى حربا وهمية قضت على الخلافة "الشبح" في الحرب العالمية الأولى؟! ألم يكن القضاء على الخـلافة هماً يسعى الغرب دائماً لتحقيقه؟ وقد حققه بعد الحرب العالمية الأولى. يقول كرزون وزير خارجية بريطانيا الذي هدمت الخـلافة في عهده: «لقدْ قضينا على تركيا، التي لنْ تقومَ لها قائمةٌ بعدَ اليومِ ... لأننا قضينا على قوتِهَا المتمثلةِ في أمرينِ: الإسلام والخـلافة». ألم تطلع يا أستاذ هويدي على تصريحات زعماء الغرب بوش وبلير وبوتين وهنري كسينجر ورمسفيلد وغيرهم الذين بات يؤرقهم تحرك الأمة الصاعد نحو استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة؟ أم أنهم أيضا يحاربون "طواحين هواء"، ويتوهمون عدوا شبحا لا وجود له سوى في أذهان بعض "المتدينين المهووسين" بمسألة الخلافة الإسلامية كما تدعي سيادتك.


أما عن خلط الكاتب المتعمد بين الخلافة والدولة الدينية، فهو يصب في الاتجاه الذي رسمه لنفسه، وهو بذل الوسع في تنفير من لا يزال يراوح مكانه من أبناء الأمة، وما زال مترددا في الانضمام لقافلة الأمة التي تسير نحو إقامة الخلافة. فالخلافة ليست دولة دينية، وشتان بينها وبين الدولة الدينية، فالدولة الدينية في تصور الغرب هي الدولة التي يكون الحاكم فيها ذا طبيعة إلهية ( إله أو ابن إله )، أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عُرف بنظرية الحق الإلهي، ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم في منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، وأنه لا يُعترض على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد من حقوق تجاهه، بل عليه الخضوع التام لإرادته، حيث لا حق لأحد في مقاومته أو الاعتراض عليه، ومن البيِّن أن هذا التصور للحكم لا وجود له في الفقه السياسي الإسلامي، ولا في التاريخ الإسلامي، فالحاكم بشر خالص ليس له علاقة بالله إلا علاقة العبودية والخضوع لبارئه، يخطئ ويصيب، وللمسلمين الحق في متابعته ومراقبته ومحاسبته، بل هو واجب عليهم، وكذا مقاومته لو خرج عن حدود الشرع الذي يجب عليه التقيد به. فليتق الله الأستاذ هويدي، وليفرق بين الدولة الدينية ودولة الخلافة التي هي دولة بشرية، وليست دولة إلهية.


وهذا الكاتب "الإسلامي" الكبير بعد أن أوهم القارئ أن الخلافة دولة دينية، قال أنه لا يستطيع أحد أن يأخذها على محمل الجد، وهو يعنى هنا الخلافة ولكنه استعاض عنها بجملة "الدولة الدينية" حتى يهرب من المأزق الذي وضع نفسه فيه بإنكاره للنصوص الشرعية التي تؤكد أن الخلافة فرض وهي نظام الحكم في الإسلام، هذا النظام الذي أرسى قواعده الرسول صلى الله عليه وسلم وسار عليه الخلفاء من بعده، وهو في الوقت نفسه يهرب من غضبة الأمة التي باتت تتشوق إلى اليوم الذي تُعَز فيه في ظل خلافة على منهاج النبوة، لأنها تؤمن وتصدق بوعد الله لها بالاستخلاف والنصر والتمكين والأمن، قال تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }، كم تؤمن وتصدق ببشارة المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وعدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم المراحل السياسية التي ستمر بها الأمة: نبوة، فخلافة على منهاج النبوة، فملك العضوض، فملك جبري، ومن بعده: "خلافة على منهاج النبوة".


أما قول الكاتب أنه "لم يعد أحد يقبل فكرة القيادة التي تستند إلى الوحي أو إلى الغيب"، فهذه مغالطة مقصودة منه لصرف ذهن القارئ في الاتجاه الخاطئ، فصحيح أن الخليفة أو الحاكم المسلم بعد رسول الله صلى الله عليه والسلم لا يستند في قيادته للناس إلى الوحي، فهو يخطئ ويصيب ولا يوحى إليه، ولكنه يستند فيما يطبقه من أحكام إلى الوحي لأنها كلها مستنبطة من نصوص القرآن والسنة وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس علته شرعية، فنحن نهيب بمفكر مثل فهمي هويدي أن لا يقع في هذا الخلط والمغالطة.


إن الكثرة الكاثرة من المسلمين تدرك أن الإسلام دين ومنه الدولة وأن على القيادة أو ولي أمر المسلمين أن يطبق الأحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً، قال تعالى { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } وقال أيضا { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } وقال { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .


كلمة أخيرة للأستاذ هويدي، نعم... إن الخلافة تشكل ركنا أساسيا في مشروع حزب التحرير الإسلامي، وقد استطاع الحزب بفضل الله تعالى أن يجعل منها مشروعا ومطلبا للأمة، وهو بفضل الله يمتلك دستورا متكاملا جاهزا للتطبيق ليؤكد للأستاذ هويدي ولمن هم على شاكلته أن الخلافة ليست من قبيل الأحلام التي تراود قلة استثنائية من الناس، وأنه يتعذر تنزيلها على الأرض كما يدعى، إن حـزب التحـرير يحملُ للعالمِ مشروعاً حضارياً متكاملاً يضمنُ الحياةَ المطمئنةَ والرفاهيةَ للبشر، يحملُ لهم مشروعَ الخـلافة، الأملَ الوحيدَ الذي تبقّى للبشريةِ للتخلصِ من ضنكِ وجورِ الرأسماليةِ التي عاشت على مصِ دماءِ البشر وظلمِهم ونهبِ خيراتِهم... خلافة ستنيرُ للبشريةِ دربَها وتحفظُ دماءَها وخيراتِها... خلافة تقدمُ أبناءَها قرباناً لنشر الخيرِ والهدى للعالم... خلافة لا يهدأُ لها بالٌ ولا يستقرُ لها حالٌ إلا بجعلِ البشرِ ينعمونَ بحياةٍ آمنةٍ مطمئنةٍ في ظلِ عدلِ شِرعةِ السماءِ دونَ أن ينتقصَ من حقِ البشرِ أو الدواب شيئاً... إنها خلافة حُقَ لها أن تُسمى بمشعلِ الهدايةِ في هذا الليلِ البهيمِ، وأملِ هذه الأمةِ والعالمِ من بعد ما حلَ بالبشريةِ داءُ الرأسمالية.

 


شريف زايد - رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر

 

 

 

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع