الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير

على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"

 

جواب سؤال

 

الدلالة الأصلية والدلالة التابعة

 

إلى Yeni Camii

 

 

السؤال:

 

جاء في الشخصية الجزء الأول ص307 أن الدلالات تقسم إلى دلالة أصلية ودلالة تابعة... ولكن جاء في الشخصية الجزء الثالث ص129 أن الدلالات تقسم إلى منطوق ومفهوم وأن المنطوق من قسمين (المطابقة والتضمن)، وأن المفهوم، أي دلالة الالتزام، هو أنواع ومن هذه الأنواع دلالة الإشارة، وعند شرح دلالة الإشارة كانت أمثلتها هي نفسها التي ذكرت في الشخصية الأول كأمثلة على الدلالة التابعة عند بعضهم، وقد شكل هذا شيئاً من الالتباس حول ما جاء في التقسيمات الواردة في الجزء الأول وفي الجزء الثالث.. فهل الدلالة الأصلية هي المنطوق والدلالة التابعة هي المفهوم؟ أو أن التقسيم للدلالات كل له جهة يستعمل فيها؟ وهل كان تقسيم هذه الدلالات في أزمنة واحدة أو أزمنة مختلفة؟ وجزاكم الله خيراً.

 

الجواب:

 

1- إن الموضع الذي تسأل عنه هو في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول يوضح تماماً معنى الدلالة الأصلية والدلالة التابعة، فهو يقول في صفحة 305-307 ملف الوورد باب حاجة الأمة اليوم إلى مفسرين:

 

[أما واقع القرآن من حيث مفرداته فإنا نشاهد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى اللغوي حقيقة، والمعنى اللغوي مجازاً. وقد يبقى استعمال المعنى اللغوي والمجازي معاً، ويعرف المعنى المراد بالقرينة في كل تركيب. وقد يتناسى المعنى اللغوي ويبقى المعنى المجازي، فيصبح هو المقصود، لا المعنى اللغوي. ونشاهد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى اللغوي فقط، ولم تستعمل في المعنى المجازي، لعدم وجود أي قرينة تصرفها عن المعنى اللغوي. وتوجد فيه مفردات ينطبق عليها المعنى اللغوي وينطبق عليها معنى شرعي جديد غير المعنى اللغوي حقيقة، وغير المعنى اللغوي مجازاً وتستعمل في المعنى اللغوي والمعنى الشرعي في آيات مختلفة، والذي يعيّن أي معنى مُراد منهما هو تركيب الآية. أو ينطبق عليها المعنى الشرعي فحسب، ولا تستعمل في المعنى اللغوي. فمثلاً كلمة قرية استعملت بمعناها اللغوي فقط، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾، ﴿أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ واستعملت بمعناها المجازي، قال تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ والقرية لا تسأل بل المراد أهل القرية، وهذا المعنى مجازي. وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾، والمراد أهل قرية... ومثل قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾ فإن المراد معناها الشرعي. وقوله تعالى: ﴿يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ المراد المعنى اللغوي وهو الدعاء. ومثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾. وجميع الآيات التي ذكرت فيها الصلاة لم تستعمل إلا بمعناها الشرعي.

 

هذا من حيث المفردات. أما من حيث التراكيب فإن اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معانٍ، وإذا تقصينا هذه الألفاظ من حيث وجودها في تراكيب، سواء أكانت من حيث معناها الإفرادي في التركيب، أم من حيث معنى التركيب جملة، فإنها لا تخرج عن نظرتين اثنتين. إحداهما أن ينظر إليها من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالة على معانٍ مطلقة، وهي الدلالة الأصلية. والثانية من جهة كونها ألفاظاً وعبارات دالة على معانٍ خادمة للألفاظ والعبارات المطلقة، وهي الدلالة التابعة....

 

وأما بالنسبة للقسم الثاني وهو كون التراكيب ألفاظاً وعبارات دالة على معانٍ خادمة للألفاظ والعبارات المطلقة، فإن كل خبر يقال في الجملة يقتضي بيان ما يقصد في الجملة بالنسبة لذلك الخبر. فتوضع الجملة على وضع يؤدي ذلك القصد بحسب المخبر، والمخبر عنه، ونفس الإخبار، في الحال التي وجد عليها، وفي المساق الذي سيقت به الجملة، وفي نوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك. فإنك تقول في ابتداء الإخبار: قام زيد، إن لم تكن عناية بالمخبر عنه بل بالخبر. فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام. وفي جواب السؤال أو هو منزل منزلة السؤال قلت إن زيداً قام. وفي جواب المنكر: والله إن زيداً قام، وفي إخبار من يتوقع قيام زيد: قد قام زيد، إلى غير ذلك من الأمور التي يجب أن تلاحظ في النصوص العربية، وقد جاء القرآن مستوفياً هاتين النظرتين، فجاءت فيه الألفاظ والعبارات المطلقة الدالة على معانٍ مطلقة، وجاءت فيه الألفاظ والعبارات المقيدة الدالة على معانٍ خادمة للمعاني المطلقة، في وجوه متعددة من البلاغة. ومن أروع ما روعي فيه وجود المعاني الخادمة، التي هي الدلالة التابعة، الآيات وأجزاء الآيات التي تتكرر في القرآن في السورة الواحدة والسور المختلفة، وكذلك القصص والجمل التي تتكرر في القرآن، وما جاء فيه من تقديم المحمول على الموضوع، ومن التأكيد بأنواع من التأكيد أو بنوع واحد حسب مساق الجملة، ومن الاستفهامات الإنكارية وغير ذلك، مما يتضمن أعلى أنواع الدلالة التابعة. فإنك تجد الآية أو جزء الآية أو الجملة أو القصة، تأتي في مساق على وجه في بعض السور، وتأتي على وجه آخر في سورة أخرى، وتأتي على وجه ثالث في موضع آخر وهكذا... ولا تجد تعبيراً حوّل عن وضعه الأصلي كتقديم الخبر على المبتدأ، وكتأكيد الخبر، وكالاكتفاء بذكر البعض عن البعض الآخر مما يذكر عادة، وغير ذلك، إلاّ وجدت لهذا نكتة بلاغية كانت لإيجاد معنى يخدم المعاني المطلقة التي تتضمنها الألفاظ والعبارات في الآية.] انتهى.

 

2- وكما ترى فإن الدلالة الأصلية هي التي ينظر إليها من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالة على معانٍ مطلقة، وهي الدلالة الأصلية. أي دلالة الألفاظ وفق أساليب اللغة من تقديم وتأخير، وإطناب وإيجاز، وحقيقة ومجاز...إلخ فهي بعبارة أخرى منطوق النص، فالمنطوق كما جاء في الشخصية الثالث ص 180 هو (دلالة الخطاب على الحكم إن كانت من اللفظ فهي دلالة المنطوق، وإن كانت من المعنى الذي دل عليه اللفظ فهي دلالة المفهوم. والمنطوق هو ما دل عليه اللفظ قطعاً في محل النطق، أي ما فهم من اللفظ مباشرة من غير واسطة ولا احتمال... كوجوب صوم رمضان، المفهوم من قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وذلك أن يدل اللفظ بمنطوقه على المعنى، وهو المسمى بالدلالة اللفظية. فما دل عليه اللفظ مطابقة أو تضمناً هو المنطوق، لا الذي يفهم من سوق الكلام؛ وذلك لأن اللفظ ينقسم باعتبار الدال وحده إلى ثلاثة أقسام هي: المطابقة، والتضمن، والالتزام. فدلالة اللفظ على تمام معناه مطابقة فهي من المنطوق، ودلالة اللفظ على جزء المسمى تضمن وهي كذلك من المنطوق. وإذا دل الخطاب على الحكم بمنطوقه، فإنه يحمل أولاً على الحقيقة الشرعية كقوله ﷺ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» أخرجه أحمد، فيحمل على الصيام الشرعي لا اللغوي؛ وذلك لأن النبي ﷺ بعث لبيان الشرعيات، فإن لم يكن اللفظ حقيقة شرعية، أو كان ولم يمكن أن يحمل عليها، حمل على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده عليه الصلاة والسلام؛ لأنه المتبادر إلى الفهم، ولاعتبار الشرع العرف في كثير من الأحكام كالأيمان. فإن تعذر حمله على الحقيقة الشرعية، وعلى الحقيقة العرفية، الموجودة في عهد الرسول، حمل على الحقيقة اللغوية. فالنصوص الشرعية ألفاظ تشريعية، وقد جاءت لبيان الشريعة الإسلامية، فيكون الأصل في دلالتها هو المعنى الشرعي، ثم المعنى العرفي، ثم المعنى اللغوي. وهذا إذا كثر استعمال الشرعي والعرفي بحيث صار يسبق أحدهما دون اللغوي، فإن لم يكن كذلك كان مشتركاً لا يترجح إلا بقرينة، فإن تعذرت الحقائق الثلاث حمل على المجازي، صوناً للكلام عن الإهمال...).

 

3- وهكذا فإنك ترى أن الدلالة الأصلية هي دلالة المنطوق وكلاهما يعني دلالة اللفظ، فدلالة الخطاب على الحكم إن كانت من اللفظ فهي دلالة المنطوق، والدلالة الأصلية هي التي ينظر إليها من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالة على معانٍ مطلقة، وهي الدلالة الأصلية. وتكون الدلالة التابعة هي خادمة للدلالة الأصلية توضحها بأسلوب بديع يظهر روعة المعنى وروعة المبنى، أي هي خادمة للمنطوق توضحه وتبينه من حيث الحقيقة والمجاز، والإطناب والإيجاز، والتقديم والتأخير...إلخ، أي بكل ما يوضح المعنى ويبرز (مظهر بلاغته وملاك إعجازه).. وهذا يعني أن الدلالة التابعة هي توضيح للمنطوق مؤكدة لحكمه وليست لبيان حكم آخر، فهي خادمة للدلالة الأصلية أي للمنطوق لتوضيح معناه وليست لإيجاد حكم مختلف، أي أن الدلالة التابعة ليست هي المفهوم ولا هي نوع من أنواعه.. فالمنطوق ما فهم من دلالة اللفظ، أما المفهوم فهو ما فهم من مدلول اللفظ أي من معنى اللفظ كقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ فإن دلالة اللفظ هي لا تتأفف لهما وهذا هو المنطوق، ولكن مدلول اللفظ، وهو النهي عن التأفيف، يفهم منه لا تضربهما، فيكون مفهوم قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ هو لا تضربهما. فتحريم ضرب الوالدين المفهوم من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ قد دل عليه مفهوم الآية...).

 

4- وللعلم فإن المنطوق والمفهوم تم التركيز عليه من علماء الأصول في القرون الأولى منذ عصر الشافعي "المتوفى 204هـ"، كما قال الجويني في البرهان، وازدهر في القرن الخامس الهجري، وبخاصة عند الجويني إمام الحرمين في كتابه (البرهان في أصول الفقه) المتوفى سنة 478هـ، والغزالي في كتابه (المستصفى) المتوفى 505هـ، وسنذكر بعض ما قاله الغزالي في المستصفى:

 

[- في ص25: [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي]

 

الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي السَّوَابِقِ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي وَيَتَّضِحُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِتَقْسِيمَاتٍ:

 

التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى تَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ...إلخ

 

- وفي ص246: الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ بِالْفَحْوَى، كَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْأَبِ حَيْثُ فُهِمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ، فَهُوَ قَاطِعٌ كَالنَّصِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِداً إلَى لَفْظٍ، وَلَسْنَا نُرِيدُ اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ بَلْ لِدَلَالَتِهِ، فَكُلُّ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ فَهُوَ كَالنَّصِّ، وَالْمَفْهُومُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَيْضاً كَالْمَنْطُوقِ حَتَّى إذَا وَرَدَ عَامٌّ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ ثُمَّ قَالَ الشَّارِعُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ» أُخْرِجَتْ الْمَعْلُوفَةُ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ عُمُومِ اسْمِ الْغَنَمِ، وَالنَّعَمِ...إلخ.]

 

ثم تتابع علماء الأصول فكان المحصول في أصول الفقه لابن العربي المتوفى 543هـ، والمحصول للرازي المتوفى 606هـ، وروضة الناظر لابن قدامة المتوفى 620هـ، ثم الإحكام في أصول الأحكام للآمدي المتوفى 631هـ... ثم علماء الأصول بعد ذلك.

 

5- ثم كان تقسيم الدلالات إلى أصلية وتابعة، وكان أكثرهم تركيزاً على هذا الأمر وتوضيحاً له الإمام الشاطبي المتوفى 790هـ في كتابه الموافقات - الجزء الأول - باب أنواع معاني العربية ومراتبها الطبعة الأولى 1417هـ/1997م (ص 51-52) حيث قال:

 

[(3) أنواع معاني العربية ومراتبها... ومن معهود العرب في الخطاب - كما يذكر الشاطبي - أن للغة العربية دلالتين:

 

الأولى: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة..

 

وهي الدلالة الأصلية، وهذه تشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، وهي التي يمكن ترجمتها إلى اللغات الأخرى، ومنها صح تفسير القرآن، وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه.

 

والثانية: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة، دالة على معان خادمة.. وهي الدلالة التابعة للدلالة الأصلية. وهذه الدلالة يختص بها لسان العرب.. ("فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك بحسب المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء، والإيجاز والإطناب، وبحسب الكناية عنه، والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار، وما يعطيه مقتضى الحال... إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها. فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر")... ويضيف قائلاً عن هذه الدلالة الثانية: ("وهي ما يبحث عنها في علم البلاغة، ويسميها البلاغيون "مستتبعات التراكيب" وهي خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام. وإذا كان للقرآن باعتباره ألفاظا لغوية دلالة أصلية، وأخرى تابعة (هي مظهر بلاغته، وملاك إعجازه)؛ فإن ترجمته بالنظر إلى المعنى الثانوي غير ميسورة، قال الزمخشري في "الكشاف": "إنّ في كلام العرب - خصوصا القرآن - من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان". أما الذي يمكن نقله إلى لغة أخرى؛ فهو المعنى الأصلي، حيث لا تقصر اللغات الأجنبية عن تأديتها. هذا ما قرره الشاطبي في مسألة ترجمة القرآن...)] انتهى

 

6- ومن الجدير ذكره أن هذه المسألة مختلف فيها بين علماء الأصول فمنهم من قال نحو ما ذكرناه من أن الدلالة التابعة لا تأتي بحكم جديد وإنما هي خادمة توضح الدلالة الأصلية، ومنهم من يجعل الدلالة التابعة من المفهوم وخاصة دلالة الإشارة، مثل أقل مدة الحمل...إلخ وقد وضحنا دلالة الإشارة من أنواع المفهوم في الشخصية الثالث ص186 فقلنا:

 

[دلالة الإشارة: دلالة الإشارة هي أن يكون الكلام قد سيق لبيان حكم، أو دل على حكم، ولكنه يفهم منه حكم آخر غير الحكم الذي سيق لبيانه، أو جاء ليدل عليه، مع أن هذا الحكم الآخر لم يكن مقصوداً من الكلام، فدلالة الكلام على هذا الحكم الذي لم يسق له، ولم يدل عليه، ولكن يفهم منه، هي دلالة الإشارة، مثال ذلك دلالة مجموع قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾ وقوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ. وكذلك قوله تعالى: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ أباح المباشرة إلى طلوع الفجر بقوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ وكان بيان ذلك هو المقصود، ومع ذلك لزم منه أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنباً لم يفسد صومه؛ لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله إلى النهار...]

 

ويؤكد الشاطبي أن هناك من علماء الدلالة الأصلية والتابعة من يقول بهذا القول، أي أن الدلالة التابعة هي دلالة الإشارة ويضرب لها الأمثلة نفسها التي ذكرناها للإشارة فيقول في الموافقات 2/151-154 مبيناً الاختلاف في الدلالة التابعة وذلك تحت عنوان (المسألة الخامسة) فيقول:

 

[إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين من جهة دلالته على المعنى الأصلي ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصل كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام وهل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين معا.

 

أما جهة المعنى الأصلي فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ولا يسع فيه خلاف على حال.. وأما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا هذا محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر:

 

فللمصحح أن يستدل بأوجه:...

 

والثاني أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها بلسان العرب لا من جهة كونها كلاما فقط وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى وما دل بالجهة الثانية.. فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص وترجيح من غير مرجح وذلك كله باطل فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية فكان اعتبارهما معا هو المتعين...

 

والثالث أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة:

 

استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه الصلاة والسلام: «تَمْكُثُ إحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي» والمقصود الإخبار بنقصان الدين لا الإخبار بأقصى المدة ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ولو تصورت الزيادة لتعرض لها.

 

وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذاً من قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾، مع قوله: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعاً من غير تفصيل، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصداً وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها لا قصداً، فلم يذكر له مدة، فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر.

 

وقالوا في قوله تعالى ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ الآية إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب...

 

وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه:

 

أحدها أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ومقوية لها وموضحة لمعناها وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ومن العقول موقع الفهم...

 

وكما نقول في نحو ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ إن المقصود سل أهل القرية ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال وغير ذلك فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم...

 

والثالث أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها وذلك غير صحيح ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى فيكون استفاده الحكم من جهتها على غير فهم عربي وذلك غير صحيح...

 

فأما مدة الحيض فلا نسلم أن الحديث دال عليها وفيه النزاع ولذلك يقول الحنفية إن أكثرها عشرة أيام وإن سلم فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع وفيه الكلام... وأقل مدة الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية، وكذلك مسألة الإصباح جنبا إذ لا يمكن غير ذلك.

 

وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب. فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت فلا يصح إعماله ألبتة..

 

فالصواب إذاً القول بالمنع مطلقا والله أعلم] أي أن الشاطبي لا يأخذ برأي الفريق الأول بل الثاني، ولكنه يضيف بعد ذلك:

 

[فصل: قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة.. لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يقر بها كل ذي عقل سليم فيكون لها اعتبار في الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة...]

 

7- والخلاصة هي:

 

أ- الدلالة الأصلية هي المنطوق وكلتاهما تعني دلالة اللفظ، فدلالة المنطوق هي دلالة الخطاب على الحكم إن كانت من اللفظ مباشرة في محل النطق قطعاً.. والدلالة الأصلية هي من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالة على معانٍ مطلقة.. فالمنطوق والدلالة الأصلية كلاهما دلالات من اللفظ مباشرة...

 

ب- الدلالة التابعة هي خادمة للمنطوق توضحه بأسلوب بديع يظهر روعة المعنى وروعة المبنى، أي هي خادمة للمنطوق توضحه وتبينه من حيث الحقيقة والمجاز، والإطناب والإيجاز، والتقديم والتأخير...إلخ، أي بكل ما يوضح المعنى ويبرز (مظهر بلاغته وملاك إعجازه) وهذا يعني أن الدلالة التابعة هي توضيح للمنطوق مؤكدة لحكمه وليست لبيان حكم آخر، فهي خادمة للدلالة الأصلية أي للمنطوق لتوضيح معناه وليست لإيجاد حكم مختلف، وبعبارة أخرى فالدلالة التابعة ليست هي المفهوم ولا هي نوع من أنواعه.. لا دلالة الإشارة ولا غيرها.

 

ج- وللعلم فإن هذه المسألة مختلف فيها بين علماء الأصول فمنهم من قال نحو ما ذكرناه من أن الدلالة التابعة لا تأتي بحكم جديد وإنما هي خادمة توضح الدلالة الأصلية، ومنهم من يجعل الدلالة التابعة من المفهوم وخاصة دلالة الإشارة، مثل أكثر مدة الحيض وأقل مدة الحمل والإصباح جنباً لا يفسد الصوم...إلخ كما هو مبين أعلاه.. غير أن الراجح لدينا هو ما ذكرناه آنفاً.

 

أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة

 

06 شعبان 1444هـ

الموافق 2023/02/26م

 

رابط الجواب من صفحة الأمير (حفظه الله) على الفيسبوك

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع