- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح258) الدول القائمة في العالم الإسلامي تعتبر كأنها قائمة في بلاد واحدة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالخَمْسِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "الدُّوَلُ القَائِمَةُ فِي العَالَـمِ الإِسْلَامِيِّ تُعتَبَرُ كَأَنَّهَا قَائِمَةٌ فِي بِلَادٍ وَاحِدَةٍ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: الرَّابِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ، وَالخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 189: عَلَاقَةُ الدَّولَةِ بِغَيرِهَا مِنَ الدُّوَلِ القَائِمَةِ فِي العَالَـمِ تَقُومُ عَلَى اعتِبَارَاتٍ أَربَعَةٍ:
أحدها: الدُّوَلُ القَائِمَةُ فِي العَالَـمِ الإِسْلَامِيِّ تُعتَبَرُ كَأَنَّهَا قَائِمَةٌ فِي بِلَادٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا تَدخُلُ ضِمْنَ العَلَاقَاتِ الخَارِجِيَّةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ العَلَاقَاتُ مَعَهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الخَارِجِيَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ لِتَوحِيدِهَا كُلِّهَا فِي دَولَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثانيها: الدُّوَلُ الَّتِي بَينَنَا وَبَينَهَا مُعَاهَدَاتٌ اقتِصَادِيَّةٌ، أَوْ مُعَاهَدَاتٌ تِجَارِيَّةٌ، أَوْ مُعَاهَدَاتُ حُسْنُ جِوَارٍ، أَوْ مُعَاهَدَاتٌ ثَقَافِيَّةٌ، تُعَامَلُ وَفْقَ مَا تَنُصُّ عَلَيهِ الـمُعَاهَدَاتُ. وَلِرَعَايَاهَا الحَقُّ فِي دُخُولِ البِلَادِ بِالهَوِيَّةِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى جَوَازِ سَفَرٍ إِذَا كَانَتِ الـمُعَاهَدُة تَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى شَرْطِ الـمُعَامَلَةِ بِالـمِثْلِ فِعْلاً. وَتَكُونُ العَلَاقَاتُ الاقتِصَادِيَّةُ وَالتِّجَارِيَّةُ مَعَهَا مَحدُودَةً بِأَشيَاءَ مُعَيَّنَةٍ، وَصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً، وَمِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى تَقْوِيَتِهَا.
ثالثها: الدُّوَلُ الَّتِي لَيسَ بَينَنَا وَبَينَهَا مُعَاهَدَاتٌ، وَالدُّوَلُ الاستِعْمَارِيَّةُ فِعْلاً كَإِنجلْترَا وَأَمريكَا وَفَرَنسَا، وَالدُّوَلُ الَّتِي تَطْمَعُ فِي بِلَادِنَا كَرُوسيَا، تُعتَبَرُ دُوَلاً مُحَارِبَةً حُكْماً، فَتُتَّخَذُ جَمِيعُ الاحتِيَاطَاتُ بِالنِّسْبَةِ لَـهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَنْشَأَ مَعَهَا أَيَّةُ عَلَاقَاتٍ دِبلُومَاسِيَّةٍ. وَلِرَعَايَا هَذِهِ الدُّوَلِ أَنْ يَدْخُلُوا بِلَادَنَا، وَلَكِنْ بِجَوَازِ سَفَرٍ وَبِتَأشِيرَةٍ خَاصَّةٍ لِكُلِّ فَرْدٍ، وَلِكُلِّ سَفْرَةٍ، إِلَّا إِذَا أَصْبَحَتْ مُحَارِبَةً فِعْلاً.
رابعها: الدُّوَلُ الـمُحَارِبَةُ فِعْلاً (كِإِسرَائِيلَ) مَثَلاً يَجِبُ أَنْ نَتَّخِذَ مَعَهَا حَالَةَ الحَرْبِ أَسَاساً لِكَافَّةِ التَّصَرُّفَاتِ. وَتُعَامَلُ كَأَنَّنَا وَإِيَّاهَا فِي حَرْبٍ فِعْلِيَّةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَينَنَا وَبَينَهَا هُدْنَةٌ أَم لَا. وَيُمنَعُ جَمِيعُ رَعَايَاهَا مِنْ دُخُولِ البِلَادِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْـمَادَّةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
إِنَّ هَذِهِ الـمَادَّةَ مَأُخُوذَةٌ مِنْ أَحْكَامِ (دَارِ الإِسلَامِ) وَ (دَارِ الكُفْرِ)، وَمِنْ أَحْكَامِ الـمُعَاهِدِ وَالـمُستَأْمِنِ:
فالبند الأول من المادة 189: مُتَعَلِّقٌ بِالبِلَادِ الإِسلَامِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُحْكَمُ بِالإِسلَامِ كَالـهِنْدِ مَثَلاً، أَو كَانَتْ أَكثَرِيَّتُهَا مُسْلِمِينَ كَلُبنَانَ مَثَلاً. فَالبِلَادُ الإِسلَامِيَّةُ مُنذُ هَدْمِ الخِلَافَةِ سَنَةَ 1342هـ وَحَتَّى إِقَامَتِهَا مِنْ جَدِيدٍ بِإِذْنِ اللهِ، كُلُّهَا (دَارُ كُفْرٍ)؛ لِأَنَّ مِنهَا مَا يُحكَمُ بِغَيرِ الإِسلَامِ وَأَمَانُهُ الخَارِجِيُّ بِغَيرِ أَمَانِ الإِسلَامِ، وَمِنهَا مَا أَمَانُهُ بِأَمَانِ الـمُسلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ يُحْكَمُ بِغَيرِ الإِسلَامِ، وَكُلُّهَا تُعتَبَرُ (دَارَ كَفْرٍ)؛ وَبِـمَا أَنَّ بِلَادَ الـمُسْلِمِينَ اليَومَ كَانَتْ (دَارَ إِسْلَامٍ) فَلَا بُدَّ مِنَ العَمَلِ لِإِعَادَتِـهَا لِأَنْ تُصبِحَ (دَارَ إِسْلَامٍ)، وَلَكِنَّهَا مَا دَامَتْ تُحكَمُ بِغَيرِ الإِسلَامِ أَوْ أَمَانُـهَا بِغَيرِ أَمَانِ الإِسْلَامِ فَإِنـَّهَا (دَارُ كُفْرٍ)، وَلَا تَعنِي (دَارُ الكُفْرِ) أَنَّ كُلَّ أَهْلِهَا كُفَّارٌ، وَلَا تَعنِي (دَارُ الإِسْلَامِ) أَنَّ كُلَّ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ، بَلْ إِنَّ مَعْنَى الدَّارِ هُنَا هُوَ اصطِلَاحٌ شَرعِيٌّ "حَقِيقَةٌ شَرعِيَّةٌ" أَيْ أَنَّ الشَّرعَ هُوَ الَّذِيْ أَعْطَاهَا هَذَا الـمَعْنَى، تَـمَاماً كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهَا مِنَ الحَقَائِقِ الشَّرعِيَّةِ.
وَعَلَيهِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى بَلَدٍ جُلُّ أَهْلِهَا نَصَارَى مَثَلاً، وَلَكِنَّهَا وَاقِعَةٌ ضِمْنَ الدَّولَةِ الإِسلَامِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَيهَا (دَارُ إِسْلَامٍ)؛ لِأَنَّ الأَحْكَامَ الـمُطَبَّقَةَ أَحْكَامُ الإِسلَامِ، وَأَمَانَ البَلَدِ بِأَمَانِ الإِسْلَامِ، مَا دَامَتْ ضِمْنَ الدَّولَةِ الإِسْلَامِيَّةِ. وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِبَلَدٍ مُعْظَمُ أَهْلِهَا مُسلِمُونَ، وَلَكِنَّهَا تَقَعُ ضِمْنَ دَولَةٍ لَا تُحكَمُ بِالإِسْلَامِ، وَلَاتَـحْفَظُ أَمْنَهَا بِجَيشِ الـمُسلِمِينَ، بَلْ بِـجَيشِ الكُفَّارِ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ البَلَدِ (دَارُ كُفْرٍ) مَعَ أَنَّ مُعظَمَ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ. فَمَعْنَى الدَّارِ هُنَا هُوَ حَقِيقَةٌ شَرعِيَّةٌ وَلَا اعتِبَارَ لِكَثْرَةِ الـمُسلِمِينَ أَوْ قَلَّتِهِمْ عِندَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الدَّارِ، بَلِ الاعتِبَارُ لِلأَحْكَامِ الـمُطَبَّقَةِ وَلِلأَمَانِ الـمُتَحَقِّقِ لِأَهْلِهَا. أَيْ أَنَّ مَعْنَى الدَّارِ يُؤخَذُ مِنَ النَّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ هَذَا الـمَعْنَى، تَمَاماً كَمَا يُؤْخَذُ مَعْنَى الصَّلَاةِ مِنَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ مَعْنَاهَا.
وَهَكَذَا كُلُّ الحَقَائِقِ الشَّرعِيَّةِ يُؤْخَذُ مَعْنَاهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ، وَلَيسَ مِنَ الـمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلأَلفَاظِ. وَلِـ (دَارِ الكُفْرِ) أَحْكَامٌ تَختَلِفُ كُلَّ الاختِلَافِ عَنْ أَحْكَامِ (دَارِ الإِسْلَامِ). فَلَهَا أَيْ لِـ(دَارِ الكُفْرِ) أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِـهَا: فَإِنْ كَانَ الـمُسْلِمُ الَّذِي يَعِيشُ فِي (دَارِ الكُفْرِ) لَا يَستَطِيعُ إِظْهَارَ شَعَائِرِ دِينِهِ فِيهَا، فَعَلَيهِ أَنْ يَنتَقِلَ إِلَى (دَارِ كُفْرٍ) أُخرَى يَستَطِيعُ فِيهَا إِظْهَارَ شَعَائِرِ دِينِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً). (النِّسَاء 97) هَذَا إِنْ لَـمْ يَكُنْ هُنَاكَ (دَارُ إِسْلَامٍ) كَمَا هُوَ الحَالُ اليَومَ. أَمَّا إِنْ كَانَ هُنَاكَ (دَارُ إِسْلَامٍ)، فَإِنَّ أَحْكَامَ الهِجْرَةِ مِنْ (دَارِ الكُفْرِ) إلى (دَارِ الإِسلَامِ ) تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ الآتِي:
أولاً: مَنْ كَانَ قَادِراً عَلَى الهِجْرَةِ، وَلَـمْ يَسْتَطِعْ إِظْهَارَ دِينِهِ فِي بَلَدِهِ، وَلَا القِيَامَ بِأَحْكَامِ الإِسلَامِ الـمَطلُوبَةِ مِنهُ، فَإِنَّ الهِجْرَةَ إِلَى (دَارِ الإِسلَامِ) فَرضٌ عَلَيهِ، وَيَحرُمُ عَلَيهِ فِي هَذِهِ الحَالَةِ الاستِيطَانُ فِي (دَارِ الحَربِ) أَيْ (دَارِ الكُفْرِ)، بَلْ يَجِبُ عَلَيهِ الهِجْرَةُ إِلَى (دَارِ الإِسلَامِ)، وَدَلِيلُ ذَلِكَ الآيَةُ السَّابِقَةُ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً). (النساء 97) فَهِيَ تَصْلُحُ لِلاستِدْلَالِ هُنَا كَذَلِكَ. وَأَيضاً يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِـمَ؟ قَالَ: لا تَرَايَا نَارَاهُمَ». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِـمَ؟ قَالَ: لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». وَرَوَى نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ، وَمَعْنَى لَا تَرَاءَى نَارَاهُمْ أَيْ لَا يَكُونُ بِمَوضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ وَيَرَونَ نَارَهُ إِذَا أُوقِدَتْ، وَهَذَا التَّعبِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ العَيشِ فِي دَارِهِمْ. وَأَمَّا مَا رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ قَولِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ» وَقَولِهِ: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» وَقَولِهِ: «قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَمَا رُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لَـمَّا أَسْلَمَ قِيلَ لَهُ: لَا دِينَ لِـمَنْ لَـمْ يُهَاجِرْ، فَأَتَى الـمَدِينَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : «مَا جَاءَ بِكَ أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ لاَ دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، قَالَ: ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، فَقَرُّوا عَلَى مَسْكَنِكُمْ فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِنْ اسْـتُـنْـفِرْتـُـمْ فَانْفِرُوا». ( رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ ) . فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَفْيٌ لِلهِجْرَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّفْيَ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ شَرعِيَّةٍ تُستَنبَطُ مِنَ الحَدِيثِ نَفْسِهِ، إِذْ قَولُهُ: «بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ» جَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ العِلِّيَّةَ، فَهُوَ يَعنِي أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ هُوَ عِلَّةُ نَفْيِ الهِجْرَةِ. وَهَذَا يَعنِي أَنَّ هَذَهِ العِلَّةَ تَدُورُ مَعَ الـمَعْلُولِ وُجُوداً وَعَدَماً، وَلَا تَخْتَصُّ بِمَكَّةَ بَلْ بِفَتْحِ أَيِّ بَلَدٍ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الأُخرَى: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ». وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَسُئِلَتْ عَنِ الهِجْرَةِ فَقَالَتْ: «لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ بِدِينِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ. فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ الإِسْلامَ، وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ». مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الهِجْرَةَ كَانَتْ مِنَ الـمُسْلِمِ قَبْلَ الفَتْحِ فِرَاراً بِدِينِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ، وَنُفِيَتْ بَعْدَ الفَتْحِ، لِأَنَّهُ صَارَ قَادِراً عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ، وَالقِيَامِ بِأَحْكَامِ الإِسْلَامِ. فَيَكُونُ الفَتْحُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ ذَلِكَ هُوَ عِلَّةَ نَفْيِ الهِجْرَةِ، وَلَيسَ فَتْحَ مَكَّةَ وَحْدَهَا. وَعَلَيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ:"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ". وَقَولُهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِصَفْوَانَ: «قِدِ انقَطَعَتِ الهِجْرَةُ». يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ؛ لِأَنَّ الهِجْرَةَ الخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الكُفَّارِ، وَمِنْ (دَارِ الكُفْرِ)، فَإِذَا فُتِحَ البَلَدُ وَصَارَ (دَارَ إِسْلَامٍ) لَـمْ يَبْقَ بَلَدَ الكُفَّارِ، وَلَا (دَارَ كُفْر) فَلَا تَبقَى فِيهِ هِجْرَةٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبقَى مِنهُ هِجْرَةٌ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ، وَلا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ» وَرَوَى أَحْمَدُ أَيضاً عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْهِجْرَةَ لا تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخرَى عَنهُ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الهِجْرَةَ مِنْ (دَارِ الكُفْرِ) إِلَى (دَارِ الإِسلَامِ) بَاقِيَةٌ لَـمْ تَنقَطِعْ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.